سرعان ما أدّت الحركة الانفصالية التي أطلقها شيخ الدروز في السويداء جنوب سوريا، العميل لإسرائيل، حكمت الهجري، إلى كشف كامل المخططات والمطامع الإسرائيلية المتعلقة بالنظام السوري الجديد. فلطالما كان معلوماً أن إسرائيل لم تكن راضية بتاتاً عن تغيير النظام في سوريا. ومنذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة السورية، شرعت في اتخاذ تدابير عدوانية تعكس امتعاضها وتوجسها.
ومع ذلك، لا يزال بعض المتحذلقين من منظّري المؤامرات يصرّون على تصوير سقوط الأسد وتولّي أحمد الشرع زمام الحكم في سوريا على أنه نتيجة توافق أمريكي إسرائيلي، أو حتى جزء من تفاهم دولي أوسع. هؤلاء ما زالوا غارقين في سبات أوهامهم، ويبدو أنهم لن يصحوا حتى يتحرّك الشرع من دمشق ويهاجم تل أبيب، يصعب تصديق ذلك، ولكن بعض من يُحسبون على العقلاء يعلّقون آمالهم على هذا السيناريو.
على أية حال، لسنا واثقين مما إذا كانت التطورات الأخيرة كفيلة بإيقاظهم من سباتهم. فإسرائيل قد وضعت خطتها موضع التنفيذ عبر تحريكها العلني للدروز في السويداء، مؤكدة نواياها في توسيع نطاق احتلالها من خلالهم. وقد بلغت الحماسة ببعض الدوائر حداً جعل الحديث يدور صراحة عن إنشاء ممر يصل بين السويداء وشمال سوريا، وعن خريطة جديدة تضع نصف سوريا تقريباً تحت الهيمنة الإسرائيلية. وطالب الهجري علنًا بفتح ممر إلى مناطق "قسد". ولم تتوانَ إسرائيل عن تقديم دعم علني ضد القوات الحكومية التي سعت للتدخل في المذابح التي ارتكبها الدروز بقيادة حكمت الهجري ضد العشائر العربية في السويداء. بل بلغ بها الأمر أن قصفت محيط القصر الرئاسي ووزارة الدفاع في قلب دمشق، في وضح النهار، لمنع الدولة السورية من ممارسة أبسط مهامها السيادية في فرض النظام وتحقيق الاستقرار.
في بادئ الأمر، بدا كل شيء وكأنه يسير بسلاسة بالنسبة للبعض، وكذلك بالنسبة لإسرائيل، التي اندفعت إلى الميدان دون تردّد. وبدا في الظاهر أنها تتحرك بدافع إنساني نبيل، تحت ذريعة حماية الدروز، وتحاول تسويق هذه الرواية للعالم الغربي. غير أن المطلعين على الحقائق يدركون أن الدروز، بالنسبة لإسرائيل ليسوا أكثر من أداة وظيفية يمكن استغلالها بسهولة للتوسع داخل الأراضي السورية، ولا يمكن الاستغناء عنهم بحكم موقعهم الجغرافي الحرج. فمحافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية تمثّل نقطة ارتكاز رئيسية في مشروع جيواستراتيجي إسرائيلي أكبر يعرف باسم "ممر داوود".
ويُعرف "ممر داوود" بأنه ممر استراتيجي تسعى إسرائيل إلى إنشائه، يبدأ من الجولان السوري المحتل، ويمر عبر درعا والسويداء، ويصل إلى منطقة التنف التي تضم قاعدة أمريكية، ومن هناك يمتد شرقًا نحو مناطق السيطرة الكردية، ليصل بعدها إلى أربيل في العراق، ثم يتجه شمالًا نحو الحدود التركية. إنّه ممر يمتد لمئات الكيلومترات، يربط إسرائيل بالخليج وآسيا الوسطى، ويفتح لها بوابة جديدة إلى أوروبا. ويُعد إنشاء هذا الممر والسيطرة عليه جزءًا من مخطط التوسع الاستعماري الإسرائيلي. وبما أن السويداء تقع في قلب هذا الممر، فهي تُعد آخر عقدة جغرافية وديموغرافية قبل الوصول إلى التنف، وتشكل منطقة عازلة بين جنوب سوريا والمناطق الشرقية التي تنتشر فيها القوات الأميركية والوجود الكردي، لذا فإن إسرائيل تعتمد على الدروز في حساباتها المتعلقة بهذه المنطقة. لكن هذا الاهتمام بات مكشوفاً للجميع، حتى أن الولايات المتحدة وجدت نفسها مضطرة لإعلان رفضها لهذا النهج العدواني الإسرائيلي.
لقد ظنّت إسرائيل أنها قد أنجزت مهمتها بنجاح حين منعت حكومة دمشق من التدخل لوقف المجازر التي يرتكبها الدروز، ومن محاولة إرساء الاستقرار في السويداء. وقد وضع الدروز بقيادة الهجري ثقتهم التامة في الحسابات الإسرائيلية. وعلّقت بعض الأوساط في قسد شمال سوريا آمالاً كبيرة على ما يجري، ولكن لم يمضِ 24 ساعة حتى تبين أن الحسابات لم تكن بهذه البساطة. فما إن وقعت المجازر بحق بعض القبائل العربية، حتى هبّت باقي العشائر مدفوعة بروح الغيرة والنخوة، وسار أبناؤها نحو السويداء متوشحين بروح الجهاد والاستنفار، فاتضحت خطورة الوضع بالنسبة للدروز على نحو مفاجئ، وما كان من زعيمهم الذي كان قد طرد القوات الحكومة السورية من المدينة بمساعدة إسرائيل قبل يوم، إلا أن استنجد بهذه القوات الحكومية لمواجهة زحف العشائر.
وانطلق ممثلون عن عشائر العكيدات، والشمر، وعنزة، والبكارة، والجبور، والحديدين، والنعيم، والموالي، والفواعرة، وبني خالد، وبني سعيد، والعيود، والسخاني، والشرابين، برفقة مقاتليهم، بروح التعبئة ضد الانفصاليين الدروز المتحالفين مع إسرائيل. وجاء في البيان الذي أصدروه ما يمثل صفعة للمحتلين والخونة، ومرآة صادقة تنعكس فيها حقيقة الوضع السوري أمام العالم:
"نحن أبناء العشائر السورية... نتابع بقلق بالغ ما ترتكبه ميليشيا الهجري من جرائم القتل والإبادة بحق عشائر السويداء، وما خلفته من تهجير وتشريد للأهالي الأبرياء. وانطلاقا من واجبنا الأخلاقي والقبلي، نعلن ما يلي:
1. نطالب الحكومة السورية بعدم التدخل أو عرقلة تحرك المقاتلين الذين قدموا من خارج المنطقة فزعة ونصرة لإخوتهم من عشائر البدو؛ فهؤلاء يمارسون حقهم المشروع في الدفاع عن المظلومين ورد العدوان عن النساء والأطفال والشيوخ.
2. إن أي إجراء ضد هؤلاء المقاتلين يعد انحيازا صريحًا إلى مرتكبي الجرائم، ويتحمل كل من يقف وراءه مسؤولية أخلاقية وتاريخية عن استمرار المجازر.
3. نؤكد أن العشائر السورية تقف صفا واحدا خلف أبنائها المدافعين، وأي مساس بهم سيواجه بموقف موحد لا هوادة فيه.
4. نؤمن بوحدة سورية ووحدة شعبها، ولكن كرامة شعبنا وأمنه هما خط أحمر لا يمكن تجاوزه تحت أي ظرف."
وقد وثّق شهود عيان مقطعًا لأحد المقاتلين العشائريين عند بوابة الدخول إلى محافظة السويداء، وهو يخاطب حكمت الهجري والمجموعات التابعة له قائلًا: "هكذا هم عشائر سوريا... إن غضبوا انفجروا كالبركان... لقد وقفنا بوجه إيران وروسيا وكل الجماعات الانفصالية."
إن الحقيقة التي اتضحت للجميع فجأة، هي أنه في الوضع الراهن في سوريا، لا يمكن لأي طرف أن يصمد إذا عادى الأغلبية السنية، ناهيك عن خيانتهم. فمهما اعتبرت إسرائيل الوجود السني في هذه المنطقة تهديدًا لها، فإنها ستخسر جميع حروبها التي تخوضها ضد ديموغرافية المنطقة. إن الحضور القوي للعشائر العربية، التي تدخلت تلقائيًا بعد انسحاب حكومة الشرع، والذي بدا مفاجئًا للبعض، شكّل دليلاً بالغ الأهمية على مدى قوة الأساس الاجتماعي والديموغرافي والسياسي الذي تعتمد عليه حكومة الشرع الحالية. لم يعد بإمكان أحد أن يرى الشرع مجرد شخص ثائر لا يمثل إلا نفسه. بل أصبح تجسيداً لإرادة شعب بأكمله: بعشائره، وثوارِه، وتُجّاره، وجميع أفراده، وبالتأكيد بروح الحرية التي تسري فيهم جميعًا.
أما الوضع الذي آل إليه الدروز في الأمس أمام زحف العشائر العربية، فقد مثّل درسًا بالغ الدلالة لكل من يراهن على الوجود الإسرائيلي ويظن أنّ بإمكانه أن يثبت نفسه ويحقق مكاسب على حساب خيانة شعوب المنطقة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة