ما سر إصرار تركيا على "الاتحاد الأوروبي"؟

08:193/12/2025, الأربعاء
تحديث: 4/12/2025, الخميس
نيدرت إيرسانال

خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية "حاقان فيدان" إلى برلين عاصمة ألمانيا، أشار الجانبان إلى وجود "سياق جيوسياسي وجيواستراتيجي" في العلاقات الثنائية، وإلى وجود روابط استراتيجية بين البلدين. غير أنّ مثل هذا الارتباط غير موجود في الحقيقة. إذ لا يوجد سوى الظرفية السياسية وحسابات اللحظة الراهنة. فأنقرة، منذ مدة ليست بالقصيرة، تحاول أن تعرف ما إذا كانت أوروبا راغبة في أن تكون مركز قوة في النظام العالمي الجديد أم لا. وتطرح تركيا هذا السؤال بصفتها "تركيا الجديدة". إنه سؤال جيوسياسي. تمامًا

خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية "حاقان فيدان" إلى برلين عاصمة ألمانيا، أشار الجانبان إلى وجود "سياق جيوسياسي وجيواستراتيجي" في العلاقات الثنائية، وإلى وجود روابط استراتيجية بين البلدين.

غير أنّ مثل هذا الارتباط غير موجود في الحقيقة. إذ لا يوجد سوى الظرفية السياسية وحسابات اللحظة الراهنة.

فأنقرة، منذ مدة ليست بالقصيرة، تحاول أن تعرف ما إذا كانت أوروبا راغبة في أن تكون مركز قوة في النظام العالمي الجديد أم لا. وتطرح تركيا هذا السؤال بصفتها "تركيا الجديدة".

إنه سؤال جيوسياسي. تمامًا مثل سؤال ما إذا كانت أوروبا ترغب في امتلاك روح صاعدة وديناميكية جديدة تجعلها أقرب إلى قوة كبرى كروسيا أو الولايات المتحدة أو الصين، أو حتى إلى ديناميات آسيا الصاعدة إقليميًا. فالواقع أن أوروبا تسير في الاتجاه المعاكس لهذه الأمثلة؛ بل يمكن القول إنها تتراجع.

وهذا التراجع لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية أو العسكرية الأمنية؛ بل يشمل مجالات أوسع تمتد من البنية التحتية إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى "أصولها الفكرية".

وليست هذه ثغرات بسيطة؛ فبحسب تحليل لصحيفة فايننشال تايمز، فإن «المدة المثالية اللازمة لنقل قوات الاتحاد الأوروبي من الموانئ الاستراتيجية غربًا إلى الدول المحاذية للحدود الروسية هي بين 3 و5 أيام، لكن أوروبا لا تستطيع إنجاز ذلك إلا في 45 يومًا». بل إن القائد المعني قال: «يجب أن تسير العملية بدقة الساعة». وحتى لو قاموا بذلك، فهذا لن يحدث. ففي إحدى المناورات في بافاريا، أطلق الجنود والشرطة النار على بعضهم بسبب انعدام التواصل.

بمعنى آخر، المسألة ليست مجرد دعوة، كما قال رئيس الأركان الفرنسي: "علينا أن نكون مستعدين للتضحية بأبنائنا"—رغم أنه لم يلتفت أحد حتى إليه أصلا — بل لا توجد طرق، ولا سكك حديدية، ولا عربات، ولا أموال، ولا توجد حتى البيروقراطية القادرة على فهم ذلك.

عندما تحدثت عن مثال مشابه في أحد البرامج التلفزيونية، قال أحد الضيوف ـ وكان عسكريًا سابقًا ـ خلال الفاصل الإعلاني: «إن عرباتنا جاهزة منذ سنوات في نقاط استراتيجية داخل تركيا، تنتظر الأوامر». شعرت بالفخر، لكنني لم أفاجأ. فأوروبا، ففي تلك السنوات اعتمدت أوروبا في أمنها على واشنطن، واستثمرت فقط—وبشكل افتراضي—في “الرفاهية والمجتمع الاجتماعي”. وعندما قالت لها الولايات المتحدة: «لقد انتهى دوري»، وجد الأوروبيون أنفسهم مكشوفين تمامًا.

إنّ الشراكة أو التحالف الاستراتيجي الجيوسياسي، في السياق الأوروبي، يعني العضوية الكاملة لتركيا. ولا وجود لمثل هذا الوضع، كما أنهم ما زالوا يواصلون التعالي والرفض. لا تصغوا لمن يقول: «لا علاقة للأمر بالأمن والدفاع، فالاتحاد الأوروبي ليس مؤسسة من هذا النوع». فإذا كنتم تتعثرون بجنوب قبرص واليونان من أجل الانضمام إلى البرنامج الاقتصادي المخطط له لإحياء البنية الأمنية الأوروبية “SAFE”، وإذا كانت الدول الأخرى تستخدم ذلك ذريعة، فهذه مسألة أمنية ودفاعية بامتياز. وكذلك أسطورة «الجيش الأوروبي» لا تختلف في جوهرها.

دعونا ننظر إلى "الوضع الراهن": إذا انتهت الحرب الروسية الأوكرانية بموجب بنود الاتفاقية التي صاغتها الولايات المتحدة وروسيا بشكل مشترك وأُبرمت في ألاسكا، أو بنص قريب منها؛ فهذا يعني هزيمة لأوكرانيا، وهزيمة لأوروبا، وهزيمة لبريطانيا، وهزيمة سياسية لحلف الناتو رغم عدم مشاركته الفعلية فيها، وهو هزيمة لـ "الولايات المتحدة القديمة" والنظام القديم. وسبق أن تحدثنا كثيرًا عن الفواتير السياسية المترتبة على ذلك.

أما إذا كانت أنقرة ترغب في عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، لا بدافع ظرفي بل بدافع إرادي - وهو ما أشك فيه - فعليها أن تُدرك أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتغيير تلك الحكومات. فلا يمكن اتخاذ خطوة واحدة بالعقلية السياسية البالية لأوروبا.

هناك عقلٌ لامعٌ نسبيًا في بريطانيا، لكنها لم تنجح حتى اليوم إلا في إدارة الأمور. وهي تضغط على المكابح الآن في أوكرانيا. ولهذا السبب تحديدًا تعمل لندن منذ فترة طويلة على تطوير علاقاتها مع تركيا والحفاظ على جودتها. لقد كتبنا هذا منذ شهور طويلة، عشرات المرات.


ولكن هل تركيا كذلك؟

سواء أعجب هذا البعض أم لم يعجبهم، سواء أثار الشكوك أم لا، هذا موضوع آخر، فتركيا تتحول – بل تحولت بالفعل – إلى مركز سياسي محوري وإلى قلب شبكة استراتيجية تمتدّ من الشرق الأوسط إلى بحر قزوين، وغرب آسيا والبلقان وأوروبا الشرقية وصولًا إلى أوروبا المركزية. وهذا ما أعنيه عندما أقول "إن تركيا الجديدة تطرح هذا السؤال على أوروبا".

وبخطة بدأت قبل حرب أوكرانيا، سيطرت الولايات المتحدة اقتصادياً على أوروبا، وكان هذا أحد أسباب الحرب. ومع الحرب ظهرت أوجه قصور أوروبا، وبدأ اقتصادها وسياستها بالانهيار، والآن يحاولون إقناع مجتمعاتهم ليتمكنوا من الوقوف صامدين. وإذا تحوّلت روسيا في المدى القصير إلى شريك محدود لترامب، فماذا نتوقع من أوروبا أن تنتج من عقل سياسي؟ إذا تحقق السلام، سيموت “البعبع”. فما هو الخوف الذي سيبيعونه بعد ذلك؟

ولا يزالون، دون خجل، ينخرطون في مناورات تهدف إلى استبعاد تركيا، وإلى جعلها، كما في السابق، أداة مسايرة لرغباتهم؛ مثل مبادرة ممرات الطاقة عبر المتوسط التي تستثني تركيا وتمر عبر إسرائيل، وكذلك مقترح التحالف الأمني ​​المقترح الذي يتجاوز الاتحاد الأوروبي ولكنه يضم تركيا إلى جانب عدد من الدول الأوروبية الأخرى.

وبينما يخوّفون القارة بأكملها بروسيا، يحاولون في الوقت نفسه "تجنيد" تركيا في قوات حفظ سلام بين كييف وموسكو. فماذا لو تجددت الحرب فعلاً؟ ما هو القرار الذي ستتخذه تركيا وهي في "المنتصف"؟

ما زال "خبراؤنا" يرددون الصورة النمطية الموروثة من تسعينيات القرن الماضي؛ "تركيا هي دولة محورية". قيل في البداية إنها "دولة محورية"، ثم استقر الرأي على أنها "مفصلة". حسنًا، ولكن أين الباب الذي تثبته المفصلة، وأين الإطار الذي تثبت فيه المفصلة؟ لقد فقد النظام، وهم يحاولون عبر "المفصلة" لصقنا بأوروبا. الولايات المتحدة نفسها لم تعد ثابتة في موقعها داخل أوروبا. وحتى الناتو، وحتى المادة الخامسة منه، لا نعلم أهي موجودة فعلاً أم لا. أوروبا ستدخل في حرب مع روسيا، ثم يُنتظر من تركيا أن تصطف في الخندق نفسه. يا للعجب!

مهما أطنبنا في الإشادة بإنجازات الطائرات المسيّرة التركية، فذلك قليل في حقّها. نبتهج حين نرى الصحف الأوروبية – ولا سيما اليونانية – تكتب على صفحاتها الأولى: "نحن نخشى المسيّرات التركية". ولكن، هل يقتصر النجاح على ذلك فقط؟! فتركيا تصدّر هذه الطائرات إلى 37 دولة، وهذا إنجاز مهمّ. ولكن كم منها أفريقية؟ لا يقلّ عددها عن ست عشرة دولة.

وماذا عن الإمكانات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، و"الطاقة"، بل وحتى الفضائية لهذا الاستثمار؟ وذلك مع العدل والمساواة. هل لدى أوروبا اليوم مثل هذا العقل؟ لو كان لديها، لما خرج الأفارقة خلفهم يقرعون الطبول.

تسعى أنقرة إلى الاستفادة من الميزانيات الدفاعية التي خصصتها أوروبا، بالإضافة إلى الشراكة في قطاعي التجارة الدفاع مع شركات الدول الأوروبية، وإضافةً إلى علاقاتها العالمية. وبما أن السياق الظرفي يخنق أوروبا فهي تريد أن تأخذ ما تستطيع أخذه. أما العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي وما شابه، فهي حكاية لا أكثر.


#الاتحادالأوروبي
#تركيا
#الناتو
#روسيا
#أوكرانيا
#حرب