العوالم الثلاثة

08:5311/05/2025, الأحد
تحديث: 11/05/2025, الأحد
طه كلينتش

كنت أتوق لقراءة كتاب "العوالم الثلاثة.. مذكرات عربي يهودي" للأستاذ الدكتور آفي شلايم، الذي كشف في نصوصه القوية خيوط الصهيونية وفضح المجزرة متعددة الأبعاد التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، وجعل هذه القضية في مقدمة أجندة الرأي العام العالمي. ولكن لم أتعجل في الحصول على النسخة الإنجليزية للكتاب التي نُشرت في لندن عام 2023، فقد كنت على علم بأن زاهدة توبا كور، إحدى أهم الشخصيات التركية في دراسات الشرق الأوسط، بدأت في ترجمته بعد فترة وجيزة من نشره. وكنت على يقين أن الكتاب سيُترجم بطريقة رائعة

كنت أتوق لقراءة كتاب "العوالم الثلاثة.. مذكرات عربي يهودي" للأستاذ الدكتور آفي شلايم، الذي كشف في نصوصه القوية خيوط الصهيونية وفضح المجزرة متعددة الأبعاد التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، وجعل هذه القضية في مقدمة أجندة الرأي العام العالمي. ولكن لم أتعجل في الحصول على النسخة الإنجليزية للكتاب التي نُشرت في لندن عام 2023، فقد كنت على علم بأن زاهدة توبا كور، إحدى أهم الشخصيات التركية في دراسات الشرق الأوسط، بدأت في ترجمته بعد فترة وجيزة من نشره. وكنت على يقين أن الكتاب سيُترجم بطريقة رائعة إلى اللغة التركية بجهدها الدؤوب وحرصها الأكاديمي، وأنه سيقدم للقراء رحلة فكرية مميزة. وعندما قرأت آخر جملة من الكتاب الذي صدر مؤخرًا عن دار "كُرة" للنشر وأغلقت غلافه، شعرت أنه كان يستحق الانتظار واستمتعت به كثيرًا.

ويغطي كتاب "العوالم الثلاثة.. مذكرات عربي يهودي" ثلاثة مراحل مختلفة من حياة آفي شلايم، الذي وُلد في بغداد في عام 1945 وهو ابن لعائلة مرموقة تنتمي إلى الجالية اليهودية العراقية. ويعرض الكتاب فترات من حياته المتنوعة، بدءًا من أجمل سنوات حياته التي قضاها في العراق حيث كانت جذوره متأصلة بعمق، مرورًا بالتوترات التي نشأت بعد تأسيس إسرائيل في عام 1948، والتي أدت إلى مغادرة المجتمع اليهودي للعراق، ليجد آفي نفسه في إسرائيل حيث يواجه بيئة غريبة ومنبوذة، وانتهاءً بانتقاله إلى لندن في سن السادسة عشر لمتابعة دراسته الثانوية، حيث دخل حياة جديدة تمامًا.

ولا تقتصر الفصول السبعة الأولى من الكتاب على تسليط الضوء على القصة المثيرة لعائلة آفي شلايم وسلالته فحسب، بل تكشف أيضًا كيف تشكل العراق بعد سقوط الدولة العثمانية. ويتناول الكتاب تاريخ المملكة العراقية الهاشمية السياسي، والمعاملة المهينة التي تعرض لها العراق والعراقيون من قبل بريطانيا، والاضطرابات التي نشأت نتيجة لذلك. وسيطلع القراء المهتمون بتاريخ الشرق الأوسط المعاصر على تفاصيل استثنائية في الفصول السبعة الأولى، وقد تصيبهم بذهول شديد.

وفي الفصلين الثامن والتاسع المعنونين بـ"وداعًا بغداد" و"الأراضي الموعودة"، يستعرض الكاتب آفي شلايم تفاصيل رحيله المؤلم مع عائلته من بغداد في 21 يوليو/تموز 1950، مرورًا بقبرص ووصولًا إلى إسرائيل، ثم الأجواء التي وجدوا أنفسهم فيها في إسرائيل. ويصف شلايم كيف واجه يهود الشرق – ولا سيما القادمون من البلدان الإسلامية – تهميشًا صارخًا من قبل المؤسسة الأشكنازية (الأوروبية العلمانية) التي هيمنت على بنية الدولة الإسرائيلية الناشئة. ويروي من خلال تجربته الشخصية كيف أن تلك الصدمة رافقته منذ طفولته، مشيرًا إلى أن والدته كانت تشير إلى إسرائيل، حتى وفاتها، على أنها "بلد الأشكناز"، وأنها لم تتقبّل يومًا هذا الكيان الذي وُضعت فيه قسرًا وعانت فيه صنوف التمييز. ويؤكد شلايم أن يهود العراق لم يهاجروا طواعية، بل هُجِّروا قسرًا إلى إسرائيل، وأن الغالبية الساحقة منهم لم تكن ترغب بمغادرة وطنها، بل لم تكن تربطهم أية صلة عاطفية أو أيديولوجية بالمشروع الصهيوني الإسرائيلي.

أما الجزء الأبرز في الكتاب، فهو بلا شك الفصل السابع المعنون بـ"تفجيرات بغداد"، حيث يكشف شلايم، مستندًا إلى أدلة مادية، أن غالبية الهجمات التي استهدفت الأهداف اليهودية في بغداد، من معابد ومراكز تجارية وبعثات بريطانية وأمريكية، خلال الفترة الممتدة من أبريل/نيسان 1950 حتى يونيو/حزيران 1951، كانت من تنفيذ عناصر إرهابية تابعة لتنظيم صهيوني سري. ويذكر أن فرق التخريب التي أُرسلت من إسرائيل هاجمت بني جلدتهم دون أي تردد "لتعجيل هجرة اليهود"، مما أدى إلى تسميم أجواء التعايش السلمي التي كانت سائدة بين المسلمين واليهود في العراق، حيث لم يكن هناك أي توتر يُذكر قبل هذه الحوادث. وينقل شلايم شهادة أحد منفذي تلك الهجمات، وهو رجل متقاعد يُدعى يعقوب كركوكلي ويبلغ من العمر 89 عامًا، التقى به المؤلف صدفة في إسرائيل، ليُدلي له باعترافات مفصلة عن كل ما رآه وعرفه.

وكما وجّه شلايم في عمله الشهير "الجدار الحديدي" ضربة قاضية للرواية التاريخية الصهيونية داخل حلبة السرد الأكاديمي، فإنه يعيد الكَرّة في كتابه "العوالم الثلاثة.. مذكّرات يهودي عربي"، ولكن هذه المرة عبر سرد شخصي لقصة عائلته، ما يضفي على العمل تأثيرًا عاطفيًا عميقًا يرسخ في الذاكرة. إن كتاب "العوالم الثلاثة.. مذكّرات يهودي عربي" هو بلا شك عملٌ قويٌ وصادمٌ ومؤثّر، ويُعد من الكتب التي لا غنى عن قراءتها لكل من يهتم بقضايا الشرق الأوسط وفلسطين.


#العوالم الثلاثة
#اليهود
#إسرائيل
#الشرق الأوسط
#فلسطين
#الصهاينة
#آفي شلايم