- موظفو المؤسسات العامة عانوا من رواتب زهيدة ما دفعهم للاعتماد على النهب والإتاوات للكسب غير المشروع - لم يكتفِ عناصر النظام بسرقة الممتلكات الثمينة والمفروشات، بل امتدت أيديهم إلى المواد المستخدمة ببناء المنازل - فاروق الحموي: عندما يقرر المرء بناء منزله أو إصلاحه أو حتى فتح متجر يجد نفسه مضطرًا لدفع المال في كل مرحلة - أم رياض من سكان المنطقة: عوملنا معاملة سيئة للغاية، ودفعنا إتاوات مقابل الحصول على أبسط حقوقنا
تحت حكم نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، شهدت سوريا انهيارا اقتصاديا واجتماعيا وإداريا، رافقه قمع ممنهج مارسه أعوان الأسد ضد المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، عبر فرض إتاوات ورشاوى وعمليات نهب.
وفي مشهد يُجسّد حجم العنف الذي خلّفه هذا القمع، تحولت مناطق واسعة من البلاد إلى أطلال، كما هو الحال في "شارع الثلاثين" بمنطقة الحجر الأسود بمحيط العاصمة دمشق، التي كانت شاهدة على أعنف هجمات النظام ولا تزال آثار الدمار فيها تروي فداحة الكارثة.
وبعد 13 عامًا من الحرب على شعبه، فرّ بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 من دمشق، مُعلنًا بذلك نهاية حكم عائلته الذي دام 53 عامًا تحت مظلة حزب البعث.
انهيار النظام بعد عملية عسكرية استمرت 10 أيام فقط شكّل مفاجأة كبيرة للمحللين والمراقبين الإقليميين، خاصة أن هذا السقوط السريع كشف عن مدى هشاشة النظام من الداخل.
ويُرجع الخبراء هذا الانهيار إلى التآكل الذي طال النظام على مدار سنوات الحرب، إذ انتشر الفساد والرشوة في جميع المستويات، من القيادات العليا إلى أصغر الموظفين.
قادة النظام والمقربون منه عاشوا حياة الثراء والبذخ عبر استغلال النفوذ والاحتكار والرشوة، بينما كان الجنود وأفراد الميليشيات سيئة السمعة مثل "الشبيحة" وموظفو المؤسسات العامة يعانون من رواتب زهيدة لم تتجاوز 35 دولارًا شهريًا، ما دفعهم للاعتماد على النهب والإتاوات كوسيلة للكسب غير المشروع.
وفي المناطق التي دمرتها الحرب، لم يكتفِ عناصر النظام بسرقة الممتلكات الثمينة والمفروشات، بل امتدت أيديهم إلى المواد المستخدمة في بناء المنازل مثل الرخام والسيراميك والكابلات الكهربائية وحتى المسامير.
شهادات الناجين كشفت أيضًا أن عناصر النظام استخدموا معدات ثقيلة كالجرافات والدبابات لتدمير المنازل عمدًا بهدف استخراج حديد البناء وبيع كابلات البنية التحتية.
وبعد سقوط النظام، لم تكن عودة بعض العائلات إلى منازلها المدمرة سوى بداية معاناة جديدة. إذ اضطرت لمواجهة نتائج هذا النهب المنهجي الذي لم يترك لهم سوى الخراب، في مشهد يُجسّد حجم الدمار الذي خلفه نظام الأسد ليس فقط في البنية التحتية، بل في حياة السوريين ومستقبلهم.
وفي منطقة الحجر الأسود بمحيط دمشق تظهر آثار الدمار التي خلفتها حرب النظام على شعبه بكل وضوح. ففي "شارع الثلاثين" أحد أكثر المناطق التي استهدفتها قوات النظام، يبرز حجم الخراب بمجرد دخول المنطقة. المنازل التي كانت تنبض بالحياة تحولت إلى أنقاض، أو ما زالت تحمل بصمات الدمار بشكل واضح، ليصبح الحي المفعم بالحياة سابقًا أشبه بمدينة أشباح.
الدمار لم يقتصر على المنازل فقط؛ فالمدارس، التي كانت يومًا منارات للتعليم، أصبحت رمزًا للخراب. داخل إحدى المدارس، كُسرت السبورات، وتحطمت المقاعد، وغطت طبقات من الغبار كل شيء، في مشهد يعكس الوجه القاسي للحرب.
وتروي شهادات المواطنين كيف استخدم النظام شتى أنواع الأسلحة في هجماته، من الدبابات إلى المدافع الثقيلة، دون أي اعتبار للمدنيين.
والروايات الأكثر قسوة كانت حول القناصة الذين استهدفوا السكان كـ"صيد سهل"، ولم يتورعوا عن إطلاق النار حتى على من يحاول إنقاذ الجرحى، مضاعفين بذلك معاناة المدنيين العزل.
"يذهب شبعان النظام ليأتي الجائع لندفع الإتاوات مجددا"
السوريون في هذه المناطق، تحدثوا لمراسل الأناضول، عمّا تعرضوا له طوال سنوات من ظلم على يد عناصر النظام الذين استخدموا أساليب السرقة، والرشوة والإتاوة والتحرش بعد أن استعاد نظام بشار الأسد السيطرة على "شارع الثلاثين" في الحجر الأسود وبعض المناطق المحيطة.
كما تحدثوا عن الصعوبات التي يواجهونها، مثل نقص الكهرباء والمياه فضلاً عن أزمات الحياة اليومية، ورغم ذلك أشاروا إلى أنهم أصبحوا "أكثر أملًا" في المستقبل بعد فرار الأسد وانهيار نظامه.
أحد الشبان ويدعى فاروق الحموي (20 عامًا) افتتح محل حلاقة صغير تحت منزله بعد عودته إلى المنطقة قبل حوالي 8 أشهر. محل الحلاقة كان بسيطًا للغاية، يحتوي على كرسي بلاستيكي ومرآة وماكينة حلاقة ومقص وبعض الصور.
الحموي قال لمراسل الأناضول إنه اضطر لمغادرة المنطقة في العام 2012، بعد أن دُمّرت بسبب القصف، الذي اضطره لترك دراسته.
وأشار إلى معاناته خلال سنوات النزوح، حيث اضطر للانتقال من حي إلى آخر تحت القصف، وأنه عندما عاد إلى منطقته، فوجئ بالواقع المرير.
وتابع: "عندما يقرر المرء بناء منزله أو إصلاحه أو حتى فتح متجر، يجد نفسه مضطرًا لدفع المال في كل مرحلة. حتى العودة إلى الحيّ لها إتاوتها (..) كل إجراء يقرر المرء فعله كان يتطلب دفع الإتاوات".
وأوضح قائلا: "إذا أراد المرء بناء سقف داره كان عليه دفع الإتاوات، إذا أراد إصلاح منزله، أعوان النظام كانوا يطالبونه بدفع الإتاوة. إذا فتح محلًا، يقولون: عليك دفع غرامة".
وأردف: "يضطر المرء لدفع المال ليتركونه وشأنه لكنهم كانوا يعودون مجددًا، عندما نقوم بتوصيل الكهرباء أو المياه نضطر لدفع إتاوة. ثم يأتي شخص آخر ويسألنا لماذا قمت بذلك، فنضطر لدفع الإتاوة مرة أخرى".
الشاب السوري أضاف بأنه "بعدها يذهب من شبع من الأعوان ليأتي من هم جوعى للمال، لندفع الإتاوات مرة أخرى".
وأوضح أنه رغم أن الحرب التي شنها النظام سلبت منه طفولته إلا أنه متفائل بمستقبله، مشيرا إلى رغبته في إعادة بناء حياته ومنزله.
"دمروا كل شيء لدينا"
السيدة أم رياض تحدثت للأناضول عن تجربتها، حيث اضطرت هي وزوجها وأطفالها الخمسة في العام 2012 لترك منزلها في "شارع الثلاثين" والنزوح إلى مناطق أخرى داخل دمشق.
قالت أم رياض إنها وعائلتها عادوا إلى منطقتهم قبل ستة أشهر، ليكتشفوا أن منازلهم قد تعرضت للتدمير "والسرِقة بالكامل".
وأضافت أنها لم تتمكن من العودة إلى منزلها إلا بعد أن دفعت الإتاوات لعناصر النظام، وتابعت: "كانوا يطلبون منا استخراج مجموعة أوراق للسماح لنا بالعودة، وبعد استخراجها يقولون إنها ناقصة".
وأردفت: "كان علينا دفع الإتاوات مقابل الحصول على أبسط الحقوق. لقد عوملنا معاملة سيئة للغاية، وكان أولئك الذين سرقوا وهدموا منازلنا هم نفسهم من آذونا".
وأشارت أم رياض إلى أنهم ورغم عودتهم إلى منازلهم من خلال دفعهم الإتاوات، إلا أنهم اكتشفوا أنهم مضطرون لمواصلة دفع الإتاوات بشكل مستمر. وقالت: "لقد دمروا كل شيء لدينا، قوتنا وخبزنا وطاقتنا وسبل معيشتنا، لقد دفعنا ثمنًا باهظًا".
وفي ختام حديثها، شددت على فرحتها الكبيرة لتخلص الشعب من نظام الأسد وجوره، وقالت: "نحن متفائلون، ولم نفقد الأمل يومًا".