محاكمة الإنسانية (2).. ما مصير الجنود الإسرائيليين أثناء قضاء عطلاتهم؟

08:5429/10/2025, среда
تحديث: 30/10/2025, четверг
أرسين جليك

حين بلغت الدول والمؤسسات الدولية مرحلة العجز والفشل اجتمع ضمير الإنسانية المشترك في إسطنبول ليقيم "محكمة غزة". وحين صمت القانون اجتمعت "هيئة الضمير" لتوثيق الحقيقة، واستمعت على مدى ثلاثة أيام إلى شهادات ووثائق كشفت تفاصيل مروّعة حول جرائم الإبادة الجماعية. استُهل اليوم الثاني للمحكمة برسالة مصورة من الأستاذة في جامعة كاليفورنيا، أنجيلا ديفيس. ولخصت كلمات ديفيس فلسفة المحكمة بقولها: "نحن نقف مع الشعب الفلسطيني. لم يرتكبوا أي شيء يستحق هذه الكارثة والاعتداءات. إنهم يتصدون لأكثر الهجمات الاستعمارية

حين بلغت الدول والمؤسسات الدولية مرحلة العجز والفشل اجتمع ضمير الإنسانية المشترك في إسطنبول ليقيم "محكمة غزة". وحين صمت القانون اجتمعت "هيئة الضمير" لتوثيق الحقيقة، واستمعت على مدى ثلاثة أيام إلى شهادات ووثائق كشفت تفاصيل مروّعة حول جرائم الإبادة الجماعية.

استُهل اليوم الثاني للمحكمة برسالة مصورة من الأستاذة في جامعة كاليفورنيا، أنجيلا ديفيس. ولخصت كلمات ديفيس فلسفة المحكمة بقولها: "نحن نقف مع الشعب الفلسطيني. لم يرتكبوا أي شيء يستحق هذه الكارثة والاعتداءات. إنهم يتصدون لأكثر الهجمات الاستعمارية تدميراً. الفلسطينيون ينتفضون".

وقد استمع الحاضرون إلى الثمن الذي تدفعه هذه الانتفاضة والجرائم الإسرائيلية الممنهجة من أفواه الشهود.


الجوع نتاج هندسة مدروسة

كان الجوع، وهو أقسى أسلحة الإبادة، البند الأول على جدول أعمال المحكمة. وخلال الجلسة التي شارك فيها عبر الإنترنت مؤسّس "خط دعم غزة" هاني المدهون، الذي فقد شقيقه وعدداً من أقاربه في غزة، قال: "لقد تُرك الناس ليموتوا جوعاً عمدًا".

وأشار المدهون، مستنداً إلى تقارير صحيفة الغارديان، إلى أن إسرائيل سمحت فقط بمرور أقل من 25% من المساعدات الغذائية بين شهري مارس ويونيو. ورغم وصول مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات إلى الحدود، إلا أن إسرائيل منعتها من الدخول. وكانت خلاصة مداخلته واضحة: "يجب ألا نسمح لأي شخص أن يقول إن غزة ليست جائعة. علينا أن نظهر لهم أن الجوع والمجاعة هناك هما نتاج هندسة مدروسة ومُدبّرة. هذه مجاعة مصطنعة، والشعب الفلسطيني يعاني من هذه المجاعة المصطنعة حقاً".

وأوضحت المقررة الخاصة السابقة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الغذاء، هلال إيلفر، كيف تحولت هذه المجاعة المدبرة إلى "جريمة حرب". وذكّرت إيلفر بـ "مجزرة الطحين"، وهي الجريمة التي وقعت في فبراير 2025 وراح ضحيتها 118 شخصاً قتلهم الاحتلال الإسرائيلي أثناء انتظارهم المساعدات الغذائية، وأشارت إلى أن وفيات الأطفال الأولى بدأت بعد أيام من هذا الحادث. وقالت إيلفر: "هذا التجويع الاقتصادي صُنع لضمان عدم قدرة غزة على النهوض حتى بعد صمت المدافع". واختتمت إلفير كلمتها بتحذير تاريخي: "لا عدالة بدون مسؤولية. ولا تعافي بدون عدالة. يجب ألا يُنسى أو يُطبع أو يُغفر تجويع غزة المتعمد أبدًا".

وتطرقت المحكمة أيضاً إلى سياسة إسرائيل التي لا تهدف فقط إلى قتل البشر، بل أيضًا إلى تدمير جميع مقومات حياة الشعب وذاكرته وطبيعته، وذلك تحت عنواني "الإبادة البيئية " و"الإبادة الحضرية".

وأكد العالم الفلسطيني البروفيسور مازن قمصية أن الأراضي الزراعية وموارد المياه والحياة الطبيعية في غزة تتعرض للتدمير المتعمد. وأشار إلى أن إسرائيل قصفت آبار المياه واستولت على الأراضي الزراعية.

أما المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق، بالاكريشنان راجاغوبال، فقد وضع تعريفاً واضحاً للدمار: "إنها إبادة حضرية". ونوّه إلى أن البنى التحتية المدنية في غزّة دُمّرت بالكامل، وأن أكثر من ثلثي المنازل أصبحت غير صالحة للسكن، مؤكِّداً أن هدم المساكن وفضاءات المعيشة يترك آثاراً نفسية وثقافية عميقة.


"أجرينا عمليات لبعضهم وتركنا آخرين للموت"

كان استهداف منظومة الرعاية الصحية هو المرحلة الأكثر وحشية في الإبادة الحضرية في غزة. وما رواه الدكتور الجراح تانر كاماجي، المتخصص في جراحة الأطفال، الذي تطوع للعمل في غزة، كان مروّعاً. وأكد كاماجي أن إسرائيل "لم تكن تحارب حماس فحسب، بل الأطفال والنساء أيضًا"، ولخص كيف نُفِّذت الإبادة الجماعية على النحو التالي:

"إسرائيل لا تقتل الناس فحسب، بل تمنع الجرحى من الوصول إلى المستشفيات بقصف سيارات الإسعاف. وتمنع إجراء العمليات لمن يصلون إلى المستشفى لأنها لم تُبقِ على أي غرفة عمليات. وتتسبب في وفاة من تجرى لهم العمليات، لأنها تمنع إرسال مواد التخدير والمضادات الحيوية والأدوية".

وأضاف كاماجي أن ما نراه على الشاشات لا يُشكّل حتى واحدا بالمئة مما يحدث، وبيَّن أن أصعب لحظةٍ عاشها كجراح، هي اضطراره إلى "انتقاء المرضى"، حيث قال: "دخل إلى المستشفى طفلان في آنٍ واحد، وكلاهما بحاجة لعملية. أحدهما تعرَّض لإصابة في الكبد، والآخر ثُقبت أمعاؤه، ولكن لا توجد سوى غرفة عمليات واحدة. فاضطررنا لاختيار أحدهما. وهذا يعني أننا أخذنا أحدهما إلى العملية وتركنا الآخر يواجه الموت. لم أتخذ في حياتي قرارًا أصعب من هذا."


آخر رسائل الصحفيين الشهداء: "نضحي بأرواحنا"

ومن أهداف الإبادة الجماعية أيضًا إسكات صوت الحقيقة، أي الصحفيين. كانت من أصعب لحظات المحكمة وأشدها تأثيرا حين عُرضت شهادات صحفيي غزة الذين استُشهِدوا. وفي جلسة "استهداف الصحفيين" عُرضت رسائل فيديو لشهيدي غزة الصحفيين محمد قريقع وحسام شبات كشهود عيان.

وفي رسالته المصورة، كشف الشهيد محمد قريقع -الذي استشهد في مارس الماضي- عن استشهاد أكثر من 220 من زملائه. ومن صوت الزميل الشهيد الذي دوّى في القاعة، استمع الحضور إلى ثمن الإدلاء بالشهادة: "علينا نقل ما نشاهده في الشوارع. حين وجدت أمي مقتولة برصاص الاحتلال، كفّنتها وعدت لمواصلة التغطية الإخبارية بعد ظهر ذلك اليوم".

أما حسام شبات، الذي استُشهد في سبتمبر الماضي، فقال: "كونك صحفيا هو جريمة في نظر إسرائيل". وأرسل رسالة إلى العالم قال فيها: "نحن نموت ولكن صوتنا لا يصل. نحن نضحي بأرواحنا".

وروى الصحفي محمود هنية، الذي فقد زوجته وأبنائه في الهجمات، بُعدًا آخر من الألم قائلا: "دفنا زوجتي وأطفالي. فقامت إسرائيل بنبش القبور التي دفناهم فيها ودمرتها. لم أعد أعلم مكان قبر زوجتي ولا أطفالي ولا أقربائي."


شركاء الجريمة.. الجامعات والشركات والذكاء الاصطناعي

كرس اليوم الثالث للمحكمة جهوده لكشف النقاب عن الجهات التي تمول وتدعم آلة الجريمة الضخمة في غزة تكنولوجياً. وكشفت عالمة الأنثروبولوجيا والبرفيسورة ماورا فينكلشتاين عن تواطؤ المؤسسات الأكاديمية قائلةً: "تدعم معظم الجامعات في أمريكا الإبادة الجماعية بشكل مباشر، من خلال استثماراتها في إسرائيل وشركات تصنيع الأسلحة."

وعبّرت الناشطة السياسية ليلي غرينبرغ، التي استقالت من وزارة الداخلية الأمريكية "بسبب الدعم المروع للإبادة الجماعية من قبل الولايات المتحدة"، عن اعتراضها الأخلاقي على هذا التواطؤ بقولها: "لو لم أفعل ذلك، لكنتُ خائنة لنفسي".

وأكدت الأكاديمية شاد حموري أن "إسرائيل دولة ذات اقتصاد عسكري"، مشيرة إلى أنها تستخدم غزة كساحة لاختبار أسلحتها الجديدة. بينما كشفت مهندسة البرمجيات إبتهال أبو السعد عن البعد التكنولوجي للإبادة في القرن الحادي والعشرين: "لم تعد القنابل والصواريخ وحدها هي ما يُمكّن من الإبادة الجماعية، فقد ساهمت برامج الذكاء الاصطناعي في الوصول إلى هذا المستوى من التتبع والإصابة والقتل للفلسطينيين."


أيديولوجية الإبادة.. محو غزة من الخريطة

وأثناء انعقاد الجلسات، عرّف المؤرخ البريطاني اليهودي من جامعة أوكسفورد، البروفيسور آفي شلايم والمعروف جيداً في بلادنا، في حديثٍ لوكالة الأناضول، بوضوح الأيديولوجية الكامنة وراء هذه الجرائم. ووصف حكومة نتنياهو بأنها "أكثر الحكومات في تاريخ إسرائيل تطرفاً ويمينية، وعنصرية، وإيمانا بالتفوق اليهودي"، ووصف الأيديولوجية الحالية بأنها "الصهيونية الدينية". وأكد أن هذه الأيديولوجية لا تمنح الفلسطينيين أي حقوق سياسية في أرضهم، مشيراً إلى أنه يتردد في استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" لأن اليهود كانوا ضحايا للنازية، لكن الحقيقة اليوم تجعلنا نواجه واقع أن "الفلسطينيين هم ضحايا عُزّل للصهيونية". وأشار شلايم إلى أن نقطة التحوّل تكمن في إيقاف إسرائيل للمساعدات الإنسانية، وختم بتصريحٍ يعرِّفُ سوسيولوجيا الوحشية التي أنشأتها إسرائيل في عصرنا: "هذه الإبادة الجماعية مختلفة، لأن الدول الأخرى تحاول عادة إخفاء جرائمها. أما قادة إسرائيل فيصرحون علنا بأنهم يريدون محو غزة من الخريطة".


ما بعد لاهاي.. كيفية محاكمة الجنود أثناء قضائهم عطلهم

أكدت شهادات الأيام الثلاثة مراراً وتكراراً على أطروحة "فشل القانون" التي لفتُّ إليها الانتباه في المقال السابق. ففي جلسة بعنوان "استجابة النظام الدولي"، عرض الأستاذ المساعد الدكتور أردي إمسيس إحصائيات الدمار المروعة في غزة قائلا: "دُمرت 92% من المنازل المدنية، و80% من المدارس، و84% من المنشآت الصحية".

وكشفت البروفيسورة سوزان أكرم، مديرة العيادة الدولية لحقوق الإنسان، كيف تتعطل مؤسسات مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بفعل الضغوط السياسية، وقدمت ربما الخارطة الأكثر واقعية وعملية. وفي تصريح لوكالة الأناضول، ذكرت أكرم أن المحكمة الجنائية الدولية تمتلك "كميات هائلة من الأدلة لإصدار أوامر اعتقال بحق أشخاص أكثر بكثير من نتنياهو وغالانت، وأنه من المحتمل جداً أن تكون قد أصدرت أوامر اعتقال غير معلنة".

لكن أكرم شددت على أن التأثير الحقيقي سيأتي من المحاكم المحلية وليس من لاهاي، حيث قالت: "أعتقد أن الأهم من المحكمة الجنائية الدولية سيكون المحاكمات الجنائية المحلية في المحاكم حول العالم حيث تتوفر الولاية القضائية العالمية".

وفي هذه النقطة بالتحديد، أوضحت البروفيسورة أكرم فائدة الأدلة التي جُمعت في "محكمة غزة"، وشهادات الشهود مثل الدكتور تانر كاماجي، والتقارير. فالوثائق التي قُدمت ستوفر "مواد قضائية" للمحاكم الوطنية. وقدمت أكرم مثالاً واضحاً لكيفية عمل هذه الآلية قائلة: "أعتقد أن ما أنتجناه هنا سيكون ذا قيمة كبيرة، في محاكمة الجنود الذين يذهبون لقضاء عطلة في اليونان أو فرنسا أو إيطاليا على سبيل المثال".

وأكدت أكرم أن هذا السيناريو ليس مجرد أمنية، قائلة: "المحامون الذين أعرفهم هناك نشيطون للغاية، سيتمكنون من استخدام جزء مما ننتجه هنا." وتشكل الأدلة التي جمعتها محكمة غزة "مخزونًا من الأدلة" سيمهد الطريق لاعتقال ومحاكمة الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في الإبادة الجماعية، وقضوا عطلاتهم في أوروبا واثقين بأنهم "لن يقُبض عليهم"، أمام المحاكم المحلية في تلك الدول وفق مبدأ "الولاية القضائية العالمية". ووفقاً لأكرم، فإن خوف إسرائيل من هذه المبادرات واضح جداً: "ولهذا يقمعون أصواتنا بشدة.. لأنهم يخشون هذه العواقب".


"نحن نقاوم لأنه لم يساعدنا أحد"

وفي مواجهة هذا المشهد المروع من الدمار والخذلان، خُصصت الجلسات الأخيرة للمحكمة لموضوعي "المقاومة والتضامن". وشرح الصحفي رمزي بارود، الذي فقد أكثر من 110 أشخاص من عائلته، فلسفة المقاومة قائلاً: "إذا أزلتم الأسباب التي تدفعنا للمقاومة فلن نقاوم. نحن نقاوم لأنه لم يساعدنا أحد".

وأوضحت ياسمين أجار، إحدى ناشطات أسطول الصمود التي رافقتنا لعدة أيام، أن ما حدث في غزة هو "هجوم ممنهج يؤدي إلى القضاء على شعب كامل". ومن جهته، أشار متين دوغان، من منصة الأناضول للمجتمع المدني، إلى أن "غزة أصبحت توحدنا"، ووجه نداء قانونياً هاماً: "المواطنون ذوو الجنسية المزدوجة مذنبون تمامًا مثل المسؤولين في إسرائيل. يجب أن يُحاكموا أيضاً. فهم يذهبون للقتال على الجبهات ويعودون إلى بلدنا، والشعب التركي لا يقبل بهذا".

لقد بُني القرار النهائي الذي لخصته في مقال الأمس على أساس هذه الشهادات المزلزلة والأدلة والتحليلات التي استمرت ثلاثة أيام. فقد وثّقت هيئة الضمير بالتفصيل : الجوع، والإبادة الحضرية، وتدمير النظام الصحي، ومجازر الصحفيين، والأساس الأيديولوجي، والتواطؤ التكنولوجي.

غداً، سأتناول ما يعنيه القرار النهائي الذي أُعلن عقب هذه المحكمة التاريخية.


#محكمة غزة
#الاحتلال الإسرائيلي
#فلسطين
#إسطنبول
#الإبادة الجماعية
#الصحفيون