يسير ترامب في علاقاته على خط شديد الغرابة. ففي نظره، القضايا ذات الطابع الاقتصادي تظل دائمًا أكثر أهمية من المسائل السياسية أو الدبلوماسية. بمعنى أن ترامب، أيًّا كان الشخص الذي يجلس معه على الطاولة، لا يفكر إلا في أمرين: ماذا سيأخذ منه؟ وماذا سيبيع له؟ صحيح أن تركيز السياسي على الاقتصاد قد يبدو مفهومًا في حد ذاته، لكن المعضلة في نهج ترامب تكمن في أنه يطالب بما يريده بطريقة مجحفة وأقرب إلى السلب، بينما يفرض ما يبيعه بأسعار باهظة دون أن يمنح الطرف الآخر فرصة للتفاوض.
منذ الأسابيع الأولى لولايته، كشف ترامب بوضوح عن هذه المقاربة عندما هدد كندا وغرينلاند معلنًا رغبته في ضمهما إلى الولايات المتحدة. وقد رأت معظم الأوساط في هذه المطالب تعبيرًا جديدًا عن النزعة التوسعية الأميركية المعهودة، أي نوعًا من "رعاة البقرية" الجديدة.
غير أن كندا ولا غرينلاند ـ باعتبارها جزءًا من الدنمارك ـ لم تكونا خارج النظام الغربي (الأطلسي)، فما الحاجة إذن إلى مثل هذه التهديدات؟ لكن ما تبيّن لاحقًا هو أن ترامب كان يضع نصب عينيه الثروات الكبيرة من العناصر النادرة الموجودة في القطب الشمالي وبحر الشمال، لا بدوافع استراتيجية أو عسكرية، بل اقتصادية بحتة.
ولنأخذ مثالًا آخر: جولة ترامب في الخليج. الجميع يتذكر زيارته لدول الخليج الغنية كبيرة كانت أو صغيرة، والتي أثارت حماسًا واسعًا. ودار نقاش طويل في وسائل الإعلام حول المخرجات السياسية والاستراتيجية لهذه الزيارات. لكننا نفهم الآن أن ترامب لم يحمل في حقيبته شيئًا من ذلك؛ فقد كان همه الأساس هو أموال الأثرياء العرب: كم سلاح سيبيعهم؟
وما نوع الاستثمارات التكنولوجية التي سينفذها في صحاريهم؟ وماذا سيجني منها؟ وعندما انتهت الزيارات، وزع ترامب الابتسامات، وأدلى بتصريحات بلهجة رجل أعمال ناجح حصل على ما أراد. ولم يتبقَّ سوى عقود بمئات المليارات من الدولارات. (وقد رأينا نتائج ذلك لاحقًا في أزمة حصار قطر).
ومثال آخر يمكن أن يُستشهد به هو "قمة ألاسكا" الشهيرة. إذ كان يُتوقع أن تشهد المفاوضات بين بوتين وترامب نقاشات حادة حول مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية، وأن تترتب عليها نتائج مصيرية لأمن أوروبا. بل إن بعض السذّج شبّهوا القمة بمؤتمر يالطا، ورأوا أنها قد تؤسس لنظام عالمي جديد. لكن ذلك لم يحدث. فقد أدرك بوتين، بخبرته السياسية، حقيقة ترامب.
ولم يتحدثا سوى عن الاستثمارات المشتركة التي سيقومان بها في منطقة القطب الشمالي، وعن الشراكات الجديدة التي يمكن إنشاؤها في مجال الطاقة. أما الحرب الروسية ـ الأوكرانية فقد واصلت مسارها كما هي. وقد وقع الأوروبيون في السذاجة نفسها، ثم أصيبوا بخيبة أمل، وسارعوا إلى واشنطن، لكن ترامب صدّهم ببرود.
وعندما زار ترامب المملكة المتحدة، خرجت تحليلات تقول إن الهدف من الزيارة هو إعادة جرّ الولايات المتحدة إلى صفوف الناتو في مواجهة روسيا، وربما كان هذا ما حسبته الملكية البريطانية. لكن النتيجة لم تكن سوى عقود بقيمة 180 مليار جنيه إسترليني. واليوم، لا يُعَد الملك تشارلز بالنسبة لترامب أهم من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، إذ يجلسان معًا لإعداد مشاريع في "غزة الجديدة"، يتصورانها مدينة مليئة بالفنادق والكازينوهات، على أرض مقدسة رُويت بدماء مئات الآلاف من الأبرياء.
نعم، القضايا السياسية والأيديولوجية لا تشغل سوى موقع ثانوي في أجندة ترامب. تقلباته في الأسلوب، بل وتناقضاته، نابعة من هنا. فإذا وجد أمامه من يلوّح له بإمكانات أرباح طائلة، صار في نظره "شريكًا رائعًا"، أو بتعبير آخر شخصًا مناسبًا لـ"الابتزاز الاقتصادي".
وإذا انخدع زعيم دولة ما بمثل هذه الإطراءات المفرطة، وظن أنه سيجني من ورائها مكاسب سياسية أو استراتيجية، فإنه يكون قد وقع في الفخ. فإذا حاول ربط تلبية مطالب ترامب الاقتصادية مع رهانات سياسية واستراتيجية، يكون قد خسر. فهناك احتمالان على الأقل: إذا كانت توقعاتك ومطالبك خارج "ثوابت" ترامب، فإنه لن يصغي إليك أصلًا، وسيكتفي بردود فارغة ليتخلص منك.
على سبيل المثال، الحرب الروسية ـ الأوكرانية لا تعنيه إطلاقًا. فكل ما يعنيه هو الاستيلاء على مناجم المعادن النادرة في أوكرانيا. ويبدو أنه أبرم مع بوتين تفاهمات مبدئية حول كيفية استغلالها. وما عدا ذلك، في نظره مجرد "كلام فارغ". وقد بدا ذلك واضحًا في لندن عندما سأله الصحفيون عن مصير الحرب، فاكتفى بإلقاء قصص قديمة وتبريرات غريبة: كل شيء سببه بايدن. ولو كان هو في السلطة لما وقعت الحرب أصلًا. وظن أنه سينهيها في يومين. ثم اعترف بأن ذلك كان وَهْمًا، وأن إنهاء الحرب أمر صعب، لكنه أضاف: "إن شاء الله قريبًا ستكون هناك أمور جيدة"... قصص أشبه بحكايات للأطفال الكبار.
أما الاحتمال الثاني، فيتعلق بردة فعل ترامب إذا مست مطالبك السياسية أو الاستراتيجية نقطة حساسة بالنسبة له، أي "إسرائيل" وأرض المشروع الصهيوني الفاشي. هنا ينقلب فجأة إلى صقر هائج، يخرج عن طوره، ويهينك ويهددك علنًا.
واليوم، الرئيس التركي في طريقه إلى لقاء ترامب. وقد أعلن ترامب بحماسة أنه ينتظر صديقه بلهفة. ولم يكتفِ بذلك، بل كشف عن جدول أعماله: الحديث عن بيع أسطول طائرات مدنية لتركيا.
أعتقد أن هذه هي المسألة الجوهرية. وكعادته في التسويق، لم يغفل "رشوة" صغيرة، فتحدث عن صفقة مقاتلات F-16 التي طال انتظارها وأرهقت أنقرة، وألمح كذلك إلى احتمال تسليم مقاتلات F-35. وكأننا ننسى أنه هو نفسه الذي فرض عقوبات "كاتسا" على تركيا بضغط من اللوبي الإسرائيلي.
فهل يمكن من خلال مقايضة اقتصادية مع ترامب تحقيق مكاسب استراتيجية؟ لا أدري… من أراد أن يشتري هذا الوهم فليفعل، وليرَ إن كان سيجني منه خيرًا.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة