دعوني أُطلعكم من خلال بعض الأمثلة على ما كانت تنشغل به الدبلوماسية التركية في ملف قبرص على مدى خمسين عامًا، ولا حاجة للرجوع إلى الماضي البعيد، سأتحدث عن تطورات لا تزال أصداؤها تتردد.
لقد عُرض على اليونانيين فتح معابر جديدة بين الشمال والجنوب لتعزيز الاندماج الشعبين، فاشترطوا أن تُفتح شرقًا وغربًا لتقليل مسافة التنقل لمواطنيهم اليونانيين. وطُرح عليهم تطهير الجزيرة من الألغام، فرفضوا بحجة أن تركيا قد تستغل الأمر لغزوهم. واقتُرح تركيب ألواح شمسية في المنطقة العازلة لتوليد الكهرباء لكلا الجانبين، فوافقوا بشرط مدّ الخطوط إلى الجنوب فقط وأن يحصل الأتراك على الكهرباء منهم. أما الجانب التركي، فردّ بوضوح: إما أن تُمد الخطوط للطرفين، أو يستمد الجنوب الكهرباء عبر شمال قبرص هذا خياركم. وعندما عُرض على اليونانيين تقاسم المياه القادمة من تركيا لتخفيف حدة الجفاف، رفضوا مخاطبة شمال قبرص، وأصرّوا على التواصل مع أنقرة مباشرة.
كل هذه المواقف نُقلت في الاجتماع غير الرسمي الموسّع حول قبرص، الذي عُقد في جنيف يوم 18 مارس، وقد أوضحنا في المقال السابق أهمية هذا الاجتماع، فقد شارك فيه زعماء شمال قبرص والإدارة القبرصية اليونانية، إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان، ونظيره اليوناني غيرابيتريتس، والوزير البريطاني داوتي. ولأول مرة في تاريخ مفاوضات قبرص، لم تُطرح فكرة الفيدرالية، وأشرنا إلى أن الأمم المتحدة بدأت تبتعد عن هذا الطرح.
أليس هذا دلالاً مفرطاً؟
سأقدم بضعة أمثلة أخرى. لنعد بالذاكرة إلى الوراء، حين شبّت حرائق غابات في الجنوب العام الماضي وهدّدت بالامتداد إلى الشمال، عرض الجانب التركي المساعدة بطائرات الإطفاء لمكافحة الحرائق، فقالوا: "يمكن لطائراتكم التدخل، بشرط أن تأخذ المياه من السواحل الرومية فقط، لا من سواحل شمال قبرص". وعندما عُرض عليهم إرسال سيارات إطفاء لمنع توسع الحرائق، وافقوا بشرط تغطية شعارات "جمهورية شمال قبرص التركية" على العربات. أنظروا إلى هذا التعنت المفرط. سأقولها بصراحة: هذا التعالي اللامنطقي يتجاوز الحدود، وقد بلغ حدًا أفقد أنقرة صبرها. إذ أن تركيا قررت إغلاق ملف الفيدرالية بسبب هذا الموقف المتعنت الذي استمر طوال نصف قرن.
يجب طرح جميع الخيارات على الطاولة
لقد أشرت في وقت سابق إلى أن الأزمات التي نعيشها اليوم تعود إلى سببين رئيسيين؛ الأول: هو الانهيار العنيف لكل ما له جذور من الحرب الباردة (بل وحتى الحرب العالمية الثانية). والثاني: هو ذوبان جليد الأزمات المجمدة بعد الحرب الباردة. وقضية قبرص تنتمي إلى السبب الأول. فتسليم جزر الدوديكانيز لليونان عام 1947، وجهود "الإينوسيس" المتصاعدة في خمسينيات القرن الماضي (وهي خطة ضمّ قبرص إلى اليونان)، شكّلت تهديدًا كبيرًا لتركيا. إذ لم يُستهدف الأتراك القبارصة فحسب، بل باتت تركيا محاصرة في سواحلها. وهنا يكمن الدافع الرئيسي لعملية السلام القبرصية عام 1974.
إن سقوط نظام البعث في سوريا، وانتهاء الاحتلال الأرميني لقره باغ، والحرب الروسية الأوكرانية (ومستقبل القرم)، ونهاية تنظيم "بي كي كي" الإرهابي… كلها هزات تكتونية ناتجة عن التطورين اللذين ذكرتهما آنفا. وقبرص ستتأثر بهذه العملية أيضًا. فهذه القضية في هذا الوقت تحديدًا، لا بد أن تُحل بأي طريقة كانت. لقد قرأت أنقرة روح العصر، وأغلقت ملف الفيدرالية. والآن يجب الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية دوليًا، ورفع العقوبات عنها. وإلا فسيكون ذلك ظلمًا فادحًا للقبارصة الأتراك. وإذا لم يتحقق الاعتراف الدولي، فظهور خيارات أخرى يصبح بشكل منطقي أمرًا لا مفر منه.
لقبرص الآن قصة جديدة
استضافت جمهورية شمال قبرص التركية مهرجان "تكنوفيست" من الخميس إلى الأحد الماضي. ويبلغ عدد سكان البلاد حوالي 470 ألفًا. ورغم هطول الأمطار المتفرقة طوال الأيام الأربعة، فقد زار المهرجان 225 ألف شخص. أي ما يعادل نصف سكان الجمهورية، وهذا يُظهر تعطّش القبارصة الأتراك للتكنولوجيا المتقدمة، والصناعة الدفاعية، والإنتاج، والابتكار، وريادة الأعمال. (والجدير بالذكر أن الحضور لم يقتصر على الأتراك فقط؛ فقد التقيت هناك طلابًا أجانب يدرسون في الجامعات، وسياحًا، بل حتى يونانيين جاؤوا من الجنوب.)
وينبغي التأكيد على أن جمهورية شمال قبرص التركية لا تحتاج فقط إلى اعتراف دولي واستقلال سياسي، بل إلى قصة اقتصادية جديدة تُلهِم القبارصة الأتراك وتدفعهم نحو التقدم. فاعتماد الجزيرة على قطاع الخدمات لم يعد كافيًا. ويجب تحقيق استقلال اقتصادي كامل للجزيرة أيضًا. وفي هذا الإطار، كان تصريح رئيس مجلس إدارة تكنوفيست، سلجوق بيرقدار، بالغ الدلالة، حيث قال: "نحن هنا لتحويل الوطن الشقيق إلى قاعدة تكنولوجية جديدة". ومن هنا يمكن أن تُكتب الحكاية الجديدة للقبارصة الأتراك، بل يجب أن تُكتب.
تطوران سيُفضيان إلى نتائج استراتيجية مهمة
أولًا: لا يعاني الجانب التركي في قبرص من مشاكل في المياه أو الكهرباء، فالمياه تأتي من تركيا. أما الجانب الرومي، فهو يعاني من مشاكل في كلا الأمرين. ولهذا يريدون تمديد كابل كهرباء بحري من اليونان (كريت)، مرورًا بقبرص الرومية، وصولًا إلى إسرائيل. وعند النظر إلى التصريح الجديد الذي أدلى به الرئيس أردوغان في الجزيرة في ضوء هذا التطور، يتّضح المعنى بشكل أعمق. إذ قال أردوغان: "لقد جلبنا المياه إلى شمال قبرص عبر البحر، وسنجلب الكهرباء أيضًا."
ثانيًا: قامت اليونان مؤخرًا بطرح مناقصة دولية للتنقيب عن الهيدروكربون في منطقتين قامت بتحديدهما من طرف واحد جنوب جزيرة كريت. وهذه المناطق تنتهك المنطقة البحرية الليبية التي تم تحديدها في الاتفاق الليبي التركي عام 2019. وردًا على هذا التحرك، نُشرت صورة لرئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة وهو يشير بالقلم على جنوب جزيرة كريت. ولاحقًا نشرت صحيفة "يني شفق" تقريرًا مفاده أن تركيا تشارك في مشروع مشترك بليبيا، وستصدر أخبار سارة قريبًا، كما أُعلن أن أنشطة استكشاف مشتركة قبالة السواحل الليبية ستبدأ قريبا. وإذا ما قامت تركيا وليبيا بأنشطة تنقيب مشتركة في جنوب كريت، ضمن المنطقة الليبية، فإن ذلك سيكون تطورًا بالغ الأهمية.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة