أمس كانت أنظار الجميع متجهة إلى إسطنبول. اجتمعت أولًا وفود تركيا والولايات المتحدة وأوكرانيا، ثم التقى الوفدان الروسي والأوكراني على طاولة واحدة، تحت إشراف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان والوفد التركي المرافق له. من أي زاوية نُنظر إليها، فهي صورة تاريخية. إنها رقعة الشطرنج الكبرى التي نُصبت في إسطنبول.
والنتيجة التي خرجت بها هذه الاجتماعات ليست بالهينة: الطرفان توصلا إلى اتفاق لتبادل ألف أسير مقابل ألف أسير. الروس أعربوا عن رضاهم عن المفاوضات. فقد صرّح رئيس الوفد الروسي ميدينسكي بأن "الطرفين سيطرحان رؤاهما بشأن هدنة محتملة، والمفاوضات ستستمر." وأوكرانيا، التي تتراجع يومًا بعد يوم على الأرض، استطاعت على الأقل أن تستمد بعض الحافز من خلال اتفاق تبادل الأسرى.
ولفهم ما جرى في إسطنبول أمس، لا بد من النظر إلى الصورة الكاملة: نحن أمام نقطة تحوّل مهمة في الحرب الأوكرانية عبر سلسلة من الخطوات المتبادلة. وبعبارة أوضح: هناك وضع جديد يتكوّن في الأزمة. لكن هل سيتحوّل هذا الوضع إلى سلام؟ أم سيتعمق أكثر ليتحول إلى صراع أشد؟ هذا ما يجري التفاوض عليه جزئيًا في المحادثات.
لماذا قام بوتين بهذه الخطوة؟
مع تولي ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة، اكتسبت الحرب في أوكرانيا بُعدًا مختلفًا. فبمجرد وصوله إلى السلطة، فعل ترامب ثلاثة أشياء:
مارس ضغوطًا شديدة على الرئيس الأوكراني زيلينسكي من أجل وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق (ولا ننسى الموقف الغاضب في المكتب البيضاوي).
خفف الضغط الممارس على بوتين.
قدّم نفسه كوسيط لحل الأزمة.
وقد أحدث ذلك شرخًا كبيرًا في العلاقات عبر الأطلسي، إذ اتخذ ترامب مسافة من أوروبا. لكن يجب الاعتراف بأن ترامب، حتى هذه اللحظة، لم ينجح في إقناع بوتين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. وفي هذه الأثناء، وقّعت الولايات المتحدة اتفاقًا مع أوكرانيا يتعلق بالثروات الباطنية، ما دفع واشنطن إلى التراجع خطوة إلى الوراء في دبلوماسية الأزمة.
وفي الوقت ذاته، جاءت تطورات متزامنة: أعلنت دول أوروبية، تتصدرها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أنها ستفرض عقوبات جديدة على روسيا إذا لم يتم إعلان هدنة لمدة 30 يومًا.
وكان هذا تطورًا من شأنه أن يُصعّد الأزمة. ومن الواضح أن ترامب يتفق مع الاتحاد الأوروبي في هذه النقطة. تقارب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جديد في أزمة أوكرانيا، وإعادة ترميم التحالف عبر الأطلسي، يمثلان خطرًا على بوتين.
ومن هنا جاءت دعوة بوتين إلى التفاوض في إسطنبول؛ فقد أراد بها أن يُفرمل هذا المسار، ويُبقي ترامب على مسافة من أوروبا.
رسالة بوتين: "السلام سيكون حين أريده أنا، لا أنتم" لكن هذه الخطوة من بوتين، يبدو أنها لم تُحسب بدقة. فزيلينسكي – بدعم وتشجيع من ترامب – رفع سقف التوقعات، وطالب بأن تكون قمة إسطنبول على مستوى القادة. ولم يكتفِ بذلك، بل زار أنقرة والتقى بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
في ذلك اليوم، كانت احتمالية حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إسطنبول مثيرًا للحماس، لكنها لم تكن واقعية. ففي معالجة الأزمات، يبدأ التفاوض من خلال لجان فنية، يتم الاتفاق خلالها على القضايا الأساسية، ثم يجتمع القادة للتوقيع على اتفاق ينهي الحرب. لكن لا أوكرانيا ولا روسيا وصلا بعد إلى هذه المرحلة.
ويجب التذكير بما كتبناه في العام الماضي، فقد قال لنا مسؤولون آنذاك: "الدول الغربية لا تريد إقامة طاولة سلام في أوكرانيا قبل مارس أو أبريل 2025. حتى ذلك الحين، تريد تزويد أوكرانيا بالسلاح واستنزاف روسيا."
وبامتناعه عن القدوم إلى إسطنبول، وجّه بوتين رسالة مفادها: "السلام لن يتحقق حين تريدونه أنتم، بل حين أقرره أنا."
النتيجة التي أُسفِرت عنها مفاوضات الأمس كانت تبادلًا واسع النطاق للأسرى، وهو أمر بالغ الأهمية (ففي عام 2022، تم حلّ أزمة الحبوب أيضًا في إسطنبول). وقد أعلنت روسيا أن "المفاوضات ستستمر"، وهو تصريح مبشّر. لقد أثبتت مفاوضات إسطنبول أنه عند إعطاء الفرصة للدبلوماسية، يمكن تحقيق تقدم فعلي. وهذا درس مهم. ومن الواضح أن الطاولة التي ستجمع أوكرانيا وروسيا للصلح، إن لم تُعقد اليوم، فلا شك أنها ستُعقد يومًا ما في إسطنبول.
وفي هذا السياق تحديدًا، لا بد من الإشادة بالدور البارع الذي تلعبه أنقرة في إدارة أزمة عالمية كهذه، متشابكة بين القوى الكبرى، كما هو الحال في الحرب الأوكرانية. وقد أدى بروز الرئيس رجب طيب أردوغان، خلال أسبوع واحد، في كل من ملف سوريا (من خلال اجتماع الرياض) وملف أوكرانيا (إلى جانب حضوره قمة الجماعة السياسية الأوروبية في ألبانيا)، إلى تعزيز الصورة المتشكّلة عن أنقرة بصفتها "صاحبة دور فاعل، وحلّالة للأزمات، وبانية للنظام". وهذا أمر يدعو للفخر.
وقبل أن أُنهي المقال، أود أن أنقل بعض المعلومات التي حصلتُ عليها حول ما نوقش في ذلك الاجتماع الحاسم أمس. فبخصوص تبادل الأسرى، سيقوم كل من روسيا وأوكرانيا بإعداد قائمة ومشاركتها مع الطرف الآخر. وسيتم تصنيف الأسرى إلى ثلاث فئات: عسكريون، مدنيون، وأطفال. وسيجري التحقق مما إذا كانت الأسماء المدرجة في القوائم ما تزال على قيد الحياة. وقد أبدى الطرفان خلال الاجتماع ترحيبًا بإجراء التبادل عبر تركيا، إلا أنه ومع ازدياد عدد الأسرى، جرى التوجه نحو تنفيذ عملية التبادل عند خط التماس المباشر.
ومن أبرز نتائج الاجتماع أيضًا، اتفاق الطرفين على "تبادل شروط تحقيق وقف إطلاق النار بشكل مكتوب فيما بينهما". وتجدر الإشارة إلى أن الجانب الروسي أبدى اعتراضًا مبدئيًا على عبارة "وقف إطلاق النار"، لكنه عاد وقَبِل بها بعد محادثات أجريت مع موسكو.
وأخيرًا... هل ستستمر المفاوضات وأين؟ سيطلب الطرفان تفويضًا رسميًا من عواصمهما للجلوس مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات. وكما ذكرت أعلاه، من المتوقع أن تُعقد المفاوضات القادمة أيضًا في إسطنبول.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة