لا يمكن إسقاط غزة من الأجندة.. تقرير "جهان نوما" حول غزة

09:2724/11/2025, الإثنين
تحديث: 24/11/2025, الإثنين
ياسين اكتاي

بعد 40 يوماً من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بجهود الولايات المتحدة والدول الوسيطة، في أعقاب حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل القاتلة الصهيونية، ارتكبت إسرائيل ما يقارب من 500 انتهاك للاتفاق. وهذا ليس مفاجئًا، فمنذ اللحظة التي جلست فيها إسرائيل على طاولة المفاوضات، لم يستبعد الجميع هذا الاحتمال، ولكن ما يجب أن يُستغرب هنا ليس تصرفات إسرائيل التي تتناسب مع طبيعتها، بل مواقف الدول الضامنة للاتفاق وخاصة الولايات المتحدة. وقد صرح خليل الحية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي وافق على

بعد 40 يوماً من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بجهود الولايات المتحدة والدول الوسيطة، في أعقاب حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل القاتلة الصهيونية، ارتكبت إسرائيل ما يقارب من 500 انتهاك للاتفاق. وهذا ليس مفاجئًا، فمنذ اللحظة التي جلست فيها إسرائيل على طاولة المفاوضات، لم يستبعد الجميع هذا الاحتمال، ولكن ما يجب أن يُستغرب هنا ليس تصرفات إسرائيل التي تتناسب مع طبيعتها، بل مواقف الدول الضامنة للاتفاق وخاصة الولايات المتحدة.

وقد صرح خليل الحية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي وافق على اتفاق تبادل الأسرى، بأنهم وثقوا بالدول الضامنة، وليس بإسرائيل. ولكن مع مرور الوقت تبين أن وجود هذه الدول لم يُفضِ إلى أي عقوبات تضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها، ولا إلى وقف المجازر في غزة، حيث يسقط العديد من الشهداء في غزة، من أطفال ونساء وشيوخ ومدنيين، جراء الهجمات الإسرائيلية التعسفية، وكأن وقف إطلاق النار لم يحدث قط.

ووفقاً للاتفاق، كان على جيش الاحتلال السماح بدخول 600 شاحنة مساعدات يومياً إلى غزة، ووقف الهجمات تمامًا لتحقيق ذلك. لكن المساعدات الإنسانية لم تصل حتى إلى خُمس هذا العدد أبدا، بينما استمرت الهجمات دون هوادة. ومنذ التوصل إلى الاتفاق في 11 أكتوبر/تشرين الأول، أسفرت الهجمات عن استشهاد 318 فلسطينياً وإصابة 788 آخرين. وانتهك جيش الاحتلال الاتفاق أيضاً عبر توسيعه المستمر لـ"الخط الأصفر" الذي انسحب منه، وبدأ يعتبر التدخل في كل تحرك بشري داخل ذلك الخط حقاً فعلياً له.

وفي الواقع، هناك فائدة أخرى حصلت عليها إسرائيل من وقف إطلاق النار المعلن ظاهريًا: فقد شهدت الاحتجاجات ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم تراجعاً ملحوظاً. وبهذا، تمكن نظام الاحتلال الذي يواصل ارتكاب جرائم ضد الإنسانية دون توقف، من تهدئة موجة الغضب العالمية إلى حد كبير بمجرد تظاهره بوقف إطلاق النار. وبذلك انخفضت حدة التفاعل مع قضية غزة في مختلف أنحاء العالم، بينما غزة نفسها لا تزال تحترق حتى الآن.

لذلك، يجب ألا تغيب غزة عن الأجندة أبداً. وفي الواقع، حتى لو تم التوصل إلى وقف إطلاق نار حقيقي، يجب ألا نتوقف عن ملاحقة القتلة الإسرائيليين. إن استمرارهم في العيش كأشخاص طبيعيين بين البشر دون أن يدفعوا ثمن جرائمهم ويتحملوا عاقبة أفعالهم يشكل خطراً كبيراً على الإنسانية، ويُعد مصدرًا للعار والفضيحة. ولهذا تُعد محكمة غزة التي عقدت في إسطنبول مبادرة ذات مغزى كبير وخطوة مؤثرة للغاية. فقد سجّلت شهادة ستنتقل إلى الأجيال، حيث قام الذين لم يتدخلوا مباشرة في الأحداث على الأقل بإثبات شهادتهم ورفضهم لهذه الجرائم وحكمهم عليها.

كما أن تقرير غزة الذي نشرته جمعية "جهان نوما" مؤخرًا، يُعد شهادة مماثلة ذات أهمية كبيرة. فهذا التقرير لا يسجل فقط شهادة موقف الجمعية تجاه هذه الجرائم، بل يدوّن أيضًا آراءها ومقترحاتها لعملية إعادة الإعمار في غزة التي تعرضت لدمار هائل. ويؤكد التقرير، الذي أُعد بمساهمة 84 عالمًا، أن مشهد غزة لا يمكن تفسيره بمفاهيم كلاسيكية مثل "الحرب"، بل هو النتيجة النهائية والأكثر فداحة لسياسة احتلال وحصار وإبادة منهجية مستمرة منذ عقود. ولا يكتفي التقرير بتوصيف ما جرى حتى الآن، بل يقترح أيضًا سياسة حل شاملة لترميم المشهد الذي ظهر منذ 7 أكتوبر، كفصل أخير لهذا الدمار.

ويبيّن التقرير، في تقييمه للوضع الراهن، أن غزة كشفت عجز القانون الدولي، وانهيار نظام حقوق الإنسان، والمؤسسات العالمية. ويشدد على أن تجاهل إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة، وفرض الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ليسا سوى مؤشرين على هذا الانهيار. كما يؤكد التقرير أن العدالة والمساءلة شرطان أساسيان للتوصل إلى الحل الدائم المُقترح. ويشدد بقوة على ضرورة محاكمة حكومة نتنياهو والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين ضمن إطار القانون الدولي. ويستشهد بأمثلة البوسنة ورواندا والسودان ليؤكد التقرير أن "تأخر العدالة يؤدي إلى مآس جديدة".

ويُسلَّط الضوء حالياً على حقيقة واضحة تجاه إسرائيل: إنها ليست دولة، بل هي بؤرة متقدمة للإمبريالية الغربية. ولذلك، ينبغي ألا تتجه ردود الفعل نحو إسرائيل وحدها، بل نحو القوى العالمية والهياكل الإمبريالية التي تقف خلفها. إن "أيديولوجية إسرائيل الموعودة"، وسياساتها المتمثلة في زعزعة الاستقرار، ونزع الطابع الإسلامي، وفي نهاية المطاف نزع الطابع الإنساني تُجسِّد نموذج الاحتلال الإسرائيلي. وفي مواجهة هذا النموذج، يقدم تقرير "جهان نوما" نموذجه الخاص الذي يقوم على ثلاثية الإقناع، والإعمار، والإحياء.

ولكن، من الذي ينبغي إقناعه؟ وأي أرض ينبغي إعمارها؟ وكيف يكون إحياؤها؟ يشير التقرير الذي أُعد بمساهمة 84 مشاركاً تحت إشراف مجموعة من الأساتذة: البروفيسور الدكتور عبد القادر ماجد، والبروفيسور الدكتور صالح كسغين، والبروفيسور الدكتور عبد الوهاب أوزسوي، والدكتور نور الدين منتاش، إلى أن الأمر يتطلب أولاً وقبل كل شيء تأسيس أرضية دولية قادرة على فرض عقوبات حقيقية على إسرائيل. ويقصد معدو التقرير بـ "الإقناع" ترميم رأس المال المعنوي والنفسي للمجتمع الغزاوي. أما "الإعمار" فيقصدون به تجديد البنية التحتية المادية للمدينة على أسس الأمن، والإسكان، والعدالة، والإعمار. ويقصدون بالإحياء إعادة تنشيط النظام البيئي الاقتصادي والثقافي، وتفعيل الأوقاف وشبكات التضامن الاجتماعي وسلاسل الإنتاج لهذا الغرض.

ويقدّم التقرير، إلى جانب القسم المخصص للصهيونية، تحليلاً للوضع الراهن في غزة ومقترحات للإقناع والبناء والإحياء في ملفات خاصة تتعلق بالبنية التحتية لغزة التي دُمرت منذ 7 أكتوبر، وتشمل: القانون، والسياسة والعلاقات الدولية، والتعليم، والتعليم العالي، والإعلام والاتصال، والثقافة والفنون، والصحة، والمساعدات الإنسانية والاقتصادية، والعلم والهندسة والصناعة والتكنولوجيا، والمنظمات المدنية.

في الواقع، يرسم التقرير خارطة طريق لدراسات شاملة للغاية، ولكن أعتقد أن هذا هو أكبر نقاط ضعفه. وربما أُعد التقرير على افتراض أن إسرائيل وافقت بالفعل على الانسحاب من غزة والوفاء بالتزاماتها، في الأيام التي كانت فيها سيناريوهات "اليوم التالي" تُناقش لأجل غزة. لكن كما رأينا، ارتكبت إسرائيل ما يقارب 500 انتهاك خلال الأربعين يوماً الماضية. فهي لا تشعر بأي التزام على الإطلاق تجاه الحفاظ على وقف إطلاق النار.

فما الخطوة التالية؟ وأين وكيف يمكننا تطبيق هذا التقرير؟ لقد وُضعت بنود عدم الالتزام بوقف إطلاق النار بحيث تشمل "حماس" وحدها. فمنذ البداية، قيل إذا لم تلتزم حماس بالاتفاق، فستكون حياتها جحيمًا، لكن لم يُنَص على أي عقوبات في حال عدم التزام إسرائيل، وهو ما تعمل إسرائيل على استغلاله بكل سرور. كما أنه ليست لدى الدول الضامنة للاتفاق أي إرادة أو مبادرة لإيقاف إسرائيل.

ويسرد التقرير أهدافاً معيارية مثل محاكمة نتنياهو، ومحاسبة إسرائيل، وإقامة نظام سلام عالمي جديد. ولكن، كيف ستتحقق هذه الأهداف؟ وما هي التحالفات السياسية الضرورية لذلك؟ وهل الحكام الحاليون مستعدون أو راغبون بهذه التحالفات السياسية المطلوبة؟ فبعض الدول الإسلامية التي يُتوقع منها مساهمة ومشاركة كبيرة، لا تنتظر وقف المجازر في غزة، بل تنتظر من إسرائيل القضاء على حماس في أسرع وقت ممكن. فكيف يمكن فرض عقوبات على إسرائيل دون هؤلاء الفاعلين الذين اتخذوا موقفاً داعماً لإسرائيل باسم مكافحة حماس بشكل أكثر فاعلية؟

هذه في الواقع ليست معضلات يواجهها التقرير فحسب، بل هي إشكاليات تعكسها الوقائع الراهنة. ولا شك أن العمل السياسي قادر على خلق وقائع جديدة بحيث يمكن حل هذه المعضلات، ومن يُظهرون القيادة لحلها هم من سيصنعون التاريخ أيضًا. ولكن بقدر ما قد يبدو الوضع مغلقاً ومسدوداً، ففي كل عسر يسر، وهناك طريق للخروج من كل مأزق. يكفي أن يؤمن الإنسان بذلك، تماماً كما استطاع مجاهدو غزة، رغم كل الحصار والضغوط، أن يقدموا نموذجاً قادراً على محو كل أساطير إسرائيل. لقد أدوا ما عليهم، فماذا عنا؟

وفي الختام، يبقى تقرير "جهان نوما" جديرا بالتقدير والحفظ. ونأمل بإذن الله أن تتوفر البيئة التي يطمح إليها معدّوه بنية حسنة، وأن تُطرح هذه المقترحات لاحقًا على جدول الأعمال ليتم تطبيقها فعلياً.


#جهان نوما
#غزة
#الاحتلال الإسرائيلي
#وقف إطلاق النار
#حماس
#الدول الضامنة
#فلسطين