
"يضيع الإنسان حاضره بالهوس بالشيء الوحيد الذي لا يعنيه: المستقبل. وحين تمر السنين وتتطاير كأوراق الخريف الصفراء، يعود مجدداً ليهرب من ذاته بالتفكير في الماضي بدلاً من أن يعيش حاضره؛ ذلك لأن الحاضر هو النعيم الذي لا يُقدم إلا في الجنة. الجنة هي 'الآن' الأبدي في قلب الخلود. لقد خدع الشيطان آدم حين أراه -بأصابعه المشعرة وأظافره القذرة- الخطوة التالية، أي المستقبل. ومنذ ذلك الحين، ونحن نبحث جميعاً عن حاضرنا الذي أضعناه، بينما يقهقه الشيطان خلفنا.
تذهب روحنا وتدفن عظامنا في التراب كما يدفن الكلب عظماً. تمضي الروح، لأن الصائغ وحده من يعرف قيمة الذهب. ولو كان للجسد قيمة لما تركناه في الدنيا ورحلنا. وعندما تشحب الروح وتغادر يتحول جسدنا إلى سماد؛ ذلك العقل الكبير، والدماغ المبدع، وتلك الأيادي الرائعة التي أنتجت أعمالنا تصير إما طعاماً للحشرات أو غذاءً للنباتات. ومن يدرك هذه الدورة يحاول أن يعطي معنى لحياتهم. هناك طريقة واحدة لهزيمة الموت في الحياة: أن تموت وأنت حي! عندما نغذي روحنا التي ستحملنا إلى الجنة في الآخرة، لا جسدنا الذي سيصير سماداً في التراب، ربما حينها تتحول الدنيا إلى سجن جميل يمكن تحمله."
بعد صمت دام أربعة عشر عامًا، عاد بولنت أكيوريك عودةً مدوّية، بعملين استثنائيين يُمكن وصفهما بالثوريين، ليمنح عالمنا الأدبي نفحة جديدة منعشة دون مبالغة.
وحين نقول صمتاً دام 14 عاماً، فذلك لأننا نحن لم نكن نسمع صوته؛ إذ إن العملين اللذين قدّمهما يكشفان بوضوح أنه في عالمه البعيد عنا لم يتوقف أبداً، ولم يصمت، بل تكلم وتفكر وشعر وعاش، ثمحوّل ما رآه وسمعه وأدركه إلى كتابة. لم يعش تجاربه لنفسه فقط، ولم يحتفظ برؤاه لذاته، ولم يكتفِ بمراقبة نفسه، بل راقب عالمنا الذي نعيش فيه وعبّر عنه بأسلوبه المتفرد.
جاء كتابه "رجل للبيع" في قالب رواية، بينما كان كتابه "التقدم إلى الخلف" مجموعة مقالات بأسلوبه الخاص، لكن كلاهما يتسمان بالشعر ويظهر فيهما بصمته الذاتية. صحيح أن لكل جنس أدبي قواعده وأشكاله الخاصة، لكن أولئك الذين يقدمون أعمالاً رائدة هم الذين يستطيعون تجاوز هذه القواعد، وفرض قواعدهم الخاصة، ويبتكروا أساليبهم البديعة، ليشقوا طريقهم الخاص وتبرز جهودهم كأعمال فنية فذة.
وقد لمسنا هذا التميّز سابقًا في جميع أعمال جوكهان أوزجان، منذ كتابه «اللاشيء». فهو أيضًا كان، ولا يزال، يلفت الانتباه بندائه الخاص إلى ما ينبغي أن يُرى في العالم الذي ننظر إليه جميعًا، وكأن لغته مأوى يجمع شتات واقعنا المبعثر والمضطرب ويمنحه المعنى.
يقول بولنت أكيوريك: "حين تفقد الحياة معناها شيئًا فشيئًا، وتخسر يومًا واقعيتها، تتحوّل أكثر الأشياء حقيقةً إلى ملاحم، وتتجسّد في الأدب، وبهذا فقط يتحرّر صغار الناس من أعبائهم". إنه يضع بهذا الوصف اسماً لدوامة اللامعنى التي ينغمس فيها الإنسان المعاصر تدريجياً. ألم يكن هذا هو الدافع الذي أدى إلى ظهور الرواية في المقام الأول؟ الشكل الملحمي لعصرٍ صمت فيه الإله، وتمزقت فيه القيم، ولم يعد العالم يحمل معنىً بحدّ ذاته. ومع ذلك، لم يعثر الإنسان المعاصر على المعنى المفقود حتى في الرواية. فبطل الرواية لم يعد ذلك البطل الملحمي المنسجم مع العالم، بل ظهر ذاتًا إشكالية تبحث عن المعنى، تخطئ، وتفشل في أغلب الأحيان. غير أن الرواية نفسها لم تبقَ أسيرة شكلها الأول المتوقع؛ بل تكاثرت وتنوّعت، وظهرت نماذج مختلفة بحسب عبقرية الروائيين الفردية، وكل واحد منها شقّ طريقه الخاص وقال كلمته المميّزة.
عرفتُ بولنت أكيورك منذ أن خطّ روايته الأولى، وربما حتى قبل نشرها. ورغم جذوره التي تمتد إلى مدينة "إلازيغ"، إلا أنه منذ باكورة أعماله "خاطب الأمة دوماً من قلب أنقرة". ففي لغته تتجلى كل توترات أنقرة وتنوعها البشري وخبراتها، لكنه يقدم في الوقت ذاته المقاومة الأكثر فاعلية بتهكم شاعري فريد ضد "تنويرية" أنقرة وحداثتها وتعاليها وكبريائها البيروقراطي.
إن مجرد استعراض عناوين الكتب التي أصدرها قبل اعتزاله الذي دام 14 عاماً، يكشف بشكل صارخ كيف شُحذ قلمه في أتون معركة فكرية لا هوادة فيها: "كيف تستيقظ لصلاة الظهر؟"، "رسالة مافي مرمرة"، "فن الصمت الجميل والمؤثر"، "مخرج الطوارئ من الفلسفة"، "بطريق في الصحراء"، "جنوني هو جنتي"، "أحد الكلاب"، "العاصفة التي تجلب المطر"، "سيد الزمان"، "الطفل الذي يهمس للأشجار اليابسة"، "صغير الدب الذي لا يريد النوم في الشتاء".
لقد وقف أكيورك في وجه خطابات "التنمية البشرية" المعاصرة التي تحفز الناس باستمرار ليكونوا قادة وناجحين، وتدفعهم للاستحواذ على النصيب الأكبر من الدخل القومي والتفوق على الجميع، وبالتالي تشجعهم على رؤية الآخرين كحشرات وسحقهم وتجاهلهم. ردّ أكيورك بكتابه "كتاب التراجع الشخصي"، صائحاً في وجه "الثور" القابع في أعماق الإنسان المعاصر بكلمة "كفى". لقد كان كتابه الطريقة الأكثر فنية للوقوف أمام عالم فقد بوصلته والقول له: "توقفوا أيها الحشود.. هذا طريق مسدود".
يبدو أنه لم يبقَ مجال للحديث عن "رجل للبيع"، ولكن قبل أن تتاح الفرصة لقراءته واستيعابه على مهل، أتى بولنت أكيوريك بكتابه "التقدّم إلى الخلف". عمل آخر كتبه في زمن عزلته، وخطوة إضافية إلى الأمام قياسًا بروايته.
وأقولها بلا أدنى مبالغة: هذان العملان يمثلان الأدب الأكثر تأثيراً، ووضوحًا وأصالةً مما قرأتُ في السنوات الأخيرة. إنه يضع النقاط على الحروف، ويصل بالكلمات إلى مسمياتها الدقيقة، وبالقول إلى حقيقته، ويجعل من الكلمة شاهداً على الحق. يمتلك بولنت أكيورك ملكة خاصة وهبها الله إياه في "التسمية" والتعبير عما يعجز عنه الآخرون.
لقد انشغل لسنوات بمراقبة العالم كحكيم آثر الصمت، لقد افتقدناه. والآن، ها هو يعود بكتبه كـ "الرجل المنتظر"، وبدون أي مبالغة أقول إنه يفتح لنفسه مسارًا جديدًا. وما إن تبدأ القراءة حتى تجد نفسك عاجزاً عن ترك الكتاب؛ إذ تجذبك اللغة إلى تيّارها بشكل آسر.
وكما كان الشاعر الألماني الشهير هولدرلين ملهماً للفلاسفة من أمثال هيدجر، فإن أكيورك يقدم اليوم مورداً سيلهم أعظم الفلسفات حين تجد من يقرؤها بعمق. ومن هنا، أحييه بكل إعجاب وتقدير.
وفي زمن فقدت الكلمة قيمتها، وتحول الأدب إلى منتج صناعي يُنتج ويُستهلك بكميات ضخمة دون أن يلامس أي حقيقة، يشرق هذان العملان كالشمس في عالمنا الأدبي. عادةً لا أنصح الجميع بقراءة الكتب نفسها، لكنني هنا، واستثناءً، أوصي الجميع بقراءتهما.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة