الاضطراب وغياب الحسابات

09:336/11/2025, Perşembe
تحديث: 24/11/2025, Pazartesi
سليمان سيفي أوغون

تترك القرون التي تحمل أسماء محددة أثراً لطيفاً في الذاكرة الإنسانية. فعلى سبيل المثال يُطلَق على القرن السابع عشر “عصر العقل”، ويُشار إلى القرن الثامن عشر بـ“عصر التنوير”. لكن حين نصل في الحديث إلى القرن العشرين، ماذا يجب أن نقول؟ المؤرخ هوبسباوم أطلق عليه – بشيء من السخرية – وصف “القرن القصير”.ومع ذلك، يجدر بنا التنبّه إلى مسألة مهمة: الحسابات الزمنية المجردة لا تُعرّف القرون. فالقرن العشرون لم يبدأ فعلياً عام 1900، تماماً كما لم يبدأ القرن التاسع عشر عام 1800. وبرأيي الشخصي، إذا كان لا بدّ من

تترك القرون التي تحمل أسماء محددة أثراً لطيفاً في الذاكرة الإنسانية. فعلى سبيل المثال يُطلَق على القرن السابع عشر “عصر العقل”، ويُشار إلى القرن الثامن عشر بـ“عصر التنوير”. لكن حين نصل في الحديث إلى القرن العشرين، ماذا يجب أن نقول؟ المؤرخ هوبسباوم أطلق عليه – بشيء من السخرية – وصف “القرن القصير”.ومع ذلك، يجدر بنا التنبّه إلى مسألة مهمة: الحسابات الزمنية المجردة لا تُعرّف القرون. فالقرن العشرون لم يبدأ فعلياً عام 1900، تماماً كما لم يبدأ القرن التاسع عشر عام 1800. وبرأيي الشخصي، إذا كان لا بدّ من تحديد بداية افتراضية، فإن القرن التاسع عشر بدأ قبل أن ينتهي القرن الثامن عشر زمنياً، أي مع اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789.

وأُسميه “ملكة القرون”. أما نهايته فجاءت بعد حربين عالميتين، أي أنه انتهى فعلياً عام 1945. أما القرن العشرون فقد بدأ عام 1945 وانتهى عام 1989 مع سقوط الجدار ثم انهيار المنظومة السوفييتية. نعم، كان قرناً قصيراً وهزيلاً. وبالنسبة للقرن الحادي والعشرين، فلا حاجة لانتظار عام 2000، فقد بدأ فعلياً عام 1989 ولا يزال مستمراً إلى اليوم.


وإذا نظرنا إلى الجبهة الاقتصادية للقرن العشرين، يمكن القول إنه كان قرناً تحكمه سياسة اقتصادية كينزية بامتياز. إذ ارتكز على مفاهيم الاقتصاد الكلي مثل الدخل القومي، والتوظيف الكامل، والنمو.

الدولة في القرن التاسع عشر كانت قوة خشنة تضرب الشعوب والطبقات وتفرض الانضباط بالقوة، أمّا في القرن العشرين فقد تحولت إلى دولة اجتماعية تتدخل لمعالجة اختلالات الحياة الاقتصادية وتنقل جزءاً من تراكم رأس المال إلى المجتمع. مفهوم “التوازن” يبرز هنا بوضوح: فالسوق ليس “يداً خفية” كما تزعم النظريات الليبرالية، وتركه دون تدخل يؤدي إلى اختلالات خطيرة. ومن هنا تدخل السياسة باعتبارها قيمة تبادلية تفرض تصحيحاً في حركة الاقتصاد.


صحيح أن السياسة عبر معظم التاريخ كانت مرادفة للدولة، ولم يكن هناك ما يوازنها إلا الدين/الأخلاق وبشكل محدود جداً. لكن التراكم الرأسمالي في العصر الحديث أطلق قوى اقتصادية لم تعد تدين للدولة بوجودها.

ورأى الليبرتاريون في ذلك فرصة تاريخية للتحرر: فالطبقات الاقتصادية بدأت تنفصل عن النخب السياسية، والأمم المنتجة للقيمة الاقتصادية أصبحت تنازع الدولة على السلطة. وهكذا اندلعت صراعات كبرى بثلاثة أبعاد على الأقل: لم تعد الدول تتحارب فقط، بل صار الصراع بين الدولة وشعبها، وبين الشعوب ودولها، وبين القوى الاقتصادية والدولة، وخصوصاً في مستوى توزيع الثروة بين الطبقات. وهذه الاضطرابات والغموض في إيجاد توازن جديد هي ما مدّد القرن التاسع عشر وأعطاه طابعه المتطرف. ولهذا أسمي هذا القرن بـ“عصر التطرّفات”.


وبعد الكارثة الكبرى التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية، أُعيد بناء الاقتصاد السياسي للقرن العشرين على النموذج الكينزي. وتمّ إيجاد نوع من التوازن – وإن كان مؤقتاً – بين الدولة والأمة ورأس المال. ولذلك أصف القرن العشرين بأنه “قرن التوازن”. وقد اتخذ هذا التوازن أشكالاً متعددة، بما في ذلك النماذج الاشتراكية التي هي في الحقيقة تنويعات على نفس الإطار.

أما الصراع المزعوم بين الرأسمالية والاشتراكية فكان إلى حد كبير وهماً. وقد استُخدم لخلق اصطفافات أيديولوجية وسياسية، ولإنتاج مفاهيم مثل “النظام العالمي ثنائي القطبية”، رغم أن جوهر المسألة كان دائماً هو تقسيم العمل داخل النظام العالمي ومحاولة الحفاظ على توازن فيه. وكان “توازن الرعب النووي” أكثر تجلياته وضوحاً. كما ظهرت مؤسسات وطنية ودولية عديدة، واستخدمت الدبلوماسية لأجل تمديد هذا التوازن. فالسياسة كانت تقوم بوظيفة ضبط جموح الاقتصاد الرأسمالي.


وبالرغم من أن التوازن تحقق، إلا أنه كان هشاً للغاية. ومنذ التسعينيات بدأ بالتصدع، وانقطع الرابط بين الاقتصاد والسياسة. وهذه هي السمة الأساسية التي منحت القرن الحادي والعشرين طابعه الحالي. إذ تحولت القوى الاقتصادية إلى قوى مطلقة تحت هيمنة “الاقتصادوية”، ولم يعد للاقتصاد قيمة تبادلية سياسية تضبطه. فعادت خرافة “اليد الخفية” إلى الواجهة، وباتت الأمم بلا حماية، وبدأت المؤسسات بالتهاوي.


وعلى المستوى السياسي بدأ عصر الفوضى. فقد صعد اليسار الجديد واليمين الجديد بالتوازي. واتخذ اليمين الجديد – خاصة في تيار المحافظين الجدد – شكلاً عدوانياً عابراً للحدود.

أما اليسار الجديد فرأى في انهيار الاقتصادات السياسية فرصة – رغم خطورتها – نحو التحرر. ومع غياب القيمة التبادلية السياسية، صعدت موجة من “التحررية” التي لا تعرف حدوداً، تشبه تماماً الاقتصادوية التي فقدت بدورها أي قيمة مانعة أو ضابطة. وكلاهما كان في جوهره تياراً فوضوياً. وكان من الطبيعي أن يبلغ كلاهما حدّه الأقصى ثم يبدأ بالانحسار، وهو ما حصل بعد أزمة 2008.


فقد تورّط اليمين العالمي الجديد في مستنقع غزّة الذي سيُسرّع نهايته. ويمثّل “الترامبية” أكثر مراحله جنوناً. أما موجة التحررية التي فجّرها اليسار الجديد فقد فقدت كل مضمونها وتحوّلت إلى حالة تفكك، حتى صار “المجتمع المفتوح” اليوم مجرد ساحة للفوضى. وعندما يُقال كل شيء ويُكشف كل شيء، يفقد الفعل كما يفقد الكلام وزنهما.


وإذا كان لا بدّ من إطلاق تسمية أو صفة على القرن الحادي والعشرين، فإن أول ما يتبادر إلى ذهني هو:

“قرن اللاّتوازن واللاّحساب”.

لست أدري… هل وُفّقت؟

#عدم الاستقرار
#غياب التخطيط
#سوء الإدارة
#الفوضى السياسية
#القرارات العشوائية
#الحسابات الخاطئة
#الأزمة الداخلية
#ارتباك المؤسسات
#انعدام الرؤية
#الانقسام السياسي
#التفكك الإداري