بضع خطوات في سنجق..

لقد سرَّعت معاهدة برلين عام 187 من سقوط الدولة العثمانية، وأدت إلى إحداث تغييرات جذرية، وخاصة في منطقة البلقان. ومن أبرز هذه التغييرات تحويل "سنجق نوفي بازار" التي كانت تحت حكم العثمانيين منذ منتصف القرن الخامس عشر، إلى منطقة عازلة بين صربيا والجبل الأسود اللتين تأسستا حديثًا. ورغم أن إدارة سنجق ظلت رسميا بيد العثمانيين، إلا أن النمسا كانت تعمل على زيادة نفوذها في المنطقة من خلال فرض واقع جديد. ورغم منح سنجق وضعًا دوليًا بموجب اتفاقية جديدة عام 1879، لم يهدأ التوتر في منطقةٍ كانت تتطلع إليها ثلاث دول مختلفة؛ النمسا، وصربيا، والجبل الأسود. وأخيرًا مع اندلاع حروب البلقان، استولى الصرب على سنجق بالكامل.

ومنذ عام 1912 وحتى يومنا هذا، شهدت سنجق تحولات عدة، وعانت من الاحتلال والحروب؛ إذ أفضى الاحتلال الصربي، وعهد مملكة يوغوسلافيا، ويوغوسلافيا تحت حكم تيتو، إلى هجرة جزء من السكان المسلمين إلى الخارج، كما شهدت تغييرات ديموغرافية متعددة. وبعد انفصال الجبل الأسود عن صربيا عام 2006، انقسمت إلى قسمين: شرقي وغربي. ولكن رغم ذلك لم تفقد سنجق هويتها العثمانية والإسلامية.

وفي صربيا أثناء زيارتي لمدينة نوفي بازار (السوق الجديد)، المدينة المركزية في سنجق الشرقية، لم يكن بإمكاني إلا التفكير في هذا تاريخ المنطقة الحديث المليء بالاضطرابات والتوترات والمعاناة والعبر. ولو نطق نهر راشكا، الذي يجري بهدوء في وسط يني بازار، لروى الكثير مما شهدته هذه الأرض.

إن أول انطباع تتركه نوفي بازار على الزائر للمرة الأولى هو التشابه الكبير بين هذه المدينة البلقانية الجميلة ومدينة سراييفو. فإلى جانب التشابه العمراني، تتشابه قصة تأسيس المدينتين أيضًا، فقد أسسهما عيسى إسحاق أوغلو، الذي كان من أبرز القادة العثمانيين. ويمكن رؤية بصمته أيضًا في مدينتي سراييفو وسكوبيه. وعند التجوال الدقيق في هذه المدن الثلاث، يدرك المرء تمامًا معنى "المدينة العثمانية" بكل تفاصيلها.

لقد تجوّلت في مركز نوفي بازار مع صديقي العزيز إسماعيل أوزتورك، الذي تنحدر أصول عائلته من سنجق. وزرنا جميع المعالم العثمانية القديمة، سواء بحالتها الأصلية أو بعد تجديدها، وقمنا بتوثيقها بالصور. وهناك روايات تفيد بأن السلطان محمد الفاتح صلى العصر في نوفي بازار خلال حملته على البوسنة. ويتنازع مسجد "ألتون عالم" ومسجد "ليلك" على ادعاء استضافة تلك الصلاة. وقد زرنا كليهما، لكن صلاة العشاء التي أديتها في جامع ألتون عالم تركت أثرًا خاصًا في نفسي. ولم نغفل زيارة قبر العالم الراحل معمر زوكورليتش (1970-2021) الذي يرقد في حديقة الجامع، وقد شغل منصب رئيس ومفتي الجماعة الإسلامية في صربيا وكان شخصية سياسية بارزة أيضًا.

ومن نوفي بازار واصلنا المسير نحو مدينة سينيكا، إحدى أعرق مدن سنجق. وتقع هذه المدينة وسط مناظر طبيعية تسحر الألباب بجمالها، وتضمّ تحفة معمارية قلّ نظيرها: جامع شامخ شيّدته السلطانة الأم "برتفنيال" والدة السلطان عبد العزيز. وقد اكتمل بناؤه عام 1872، وأعادت ترميمه بالكامل عام 2019 وكالة التعاون والتنسيق التركية (TİKA)، فخر بلادنا في البلقان. 

وعند تأملي هذا الجامع البديع، لم يسعني إلا أن أُبدي إعجابي مجدداً بذلك الكرم العثماني الذي امتدّ إلى أقاصي البلقان، حتى في لحظات أفول الدولة العثمانية.

ومن سينيتسا، انطلقنا عبر مشاهد جبلية خلّابة نحو برييبوليي. لطالما سمعت عن هذه المدينة العثمانية العريقة من خلال كتب ومقالات الأستاذ يلدريم أغان أوغلو، فوجدتها أجمل مما تخيلتها؛ جبالها الخضراء، وأنهارها الزرقاء، ومآذنها الشامخة.. ومن أروع ما صادفناه في فناء جامع "وقف"، قطعة أثرية رومانية وهي جزء من مذبح مخصص لكوكب المشتري، يجسد جسرا ممتدا من روما إلى العثمانيين في قلب البلقان.

وأثناء جولتنا السريعة بين مدن سنجق ومعالمها الرئيسية، قطعنا على أنفسنا وعدين: العودة مرة أخرى لنغوص في أعماق هذه المنطقة أكثر، وزيارة القسم الغربي من سنجق في الجبل الأسود إن شاء الله.