قبر في حيفا

08:2017/08/2025, Pazar
تحديث: 17/08/2025, Pazar
طه كلينتش

من أعظم ما ابتلينا به في عصرنا الراهن هو الاختفاء السريع لمن يمكن وصفهم بـ "الشخصيات الجامعة". وما أعنيه بهذا المفهوم هو من يفهم الإسلام بوصفه نظاماً كاملاً يكتنف الحياة بأسرها، ويحدد توجهه ضمن هذا الإطار. إنّ هذه الشخصيات تُمثل نماذج قيادية فريدة: عالِمٌ عامل، صاحب وعيٍ سياسي متقد؛ جنديٌّ وقائدٌ في المعركة، ومفكر في أوقات السلم. إذا دُعي إلى الواجب اندفع إلى المقدمة دون أن يلتفت حوله، مركزاً على مهمته، له أجندته الخاصة التي لا يحيد عنها، ويوجه غضبه ومحبته إلى الأهداف الصحيحة تماماً، وأخيرًا يرحل

من أعظم ما ابتلينا به في عصرنا الراهن هو الاختفاء السريع لمن يمكن وصفهم بـ "الشخصيات الجامعة". وما أعنيه بهذا المفهوم هو من يفهم الإسلام بوصفه نظاماً كاملاً يكتنف الحياة بأسرها، ويحدد توجهه ضمن هذا الإطار. إنّ هذه الشخصيات تُمثل نماذج قيادية فريدة: عالِمٌ عامل، صاحب وعيٍ سياسي متقد؛ جنديٌّ وقائدٌ في المعركة، ومفكر في أوقات السلم. إذا دُعي إلى الواجب اندفع إلى المقدمة دون أن يلتفت حوله، مركزاً على مهمته، له أجندته الخاصة التي لا يحيد عنها، ويوجه غضبه ومحبته إلى الأهداف الصحيحة تماماً، وأخيرًا يرحل عن هذه الدنيا بخاتمة مشرفة وميتة كريمة.

وعندما يُذكر هذا النموذج، فإن أوّل ما يخطر ببالي هو الشيخ عزّ الدين القسّام (1882-1935).

وُلد القسّام في مدينة جبلة السورية، لأسرة تنتمي إلى الطريقة القادرية، وكان والده معلما. أتم تعليمه الإسلامي في جامعة الأزهر حيث نهل من كبار العلماء وتعرف على رجال الإصلاح والجهاد في عصره. وبعد عودته إلى وطنه عام 1909 حمل راية التدريس كما فعل والده، وكان لخطبه ومواعظه في المساجد، تأثير بالغ في نفوس الشباب على وجه الخصوص. وعندما غزت إيطاليا طرابلس عام 1911 همّ بالسفر إلى ليبيا مع طلابه للجهاد، لكنه عدل عن ذلك بعد توقيع معاهدة أوشي.

وخلال الحرب العالمية الأولى، شارك في صفوف الجيش العثماني، وبعد انقضائها انتقل إلى فلسطين حيث قاد مقاومة مزدوجة ضد الانتداب البريطاني من جهة والمحتلين الصهاينة من جهة أخرى. وفي 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1935، وبينما كان يقود مجموعة صغيرة من أتباعه المخلصين في اشتباك مسلّح قرب مدينة جنين، ارتقى شهيداً، ودُفن جثمانه في قرية بلد الشيخ قرب حيفا.

ثمة تفصيل مثير للاهتمام في حياة عز الدين القسام: ففي أوج المقاومة والصراع في فلسطين، ألف القسام بالاشتراك مع العالم السوري محمد كامل القصّاب (1873-1954) رسالة لتحذير المسلمين من البدع. وقد طُبع هذا العمل في دمشق عام 1925، ويُعد من أكثر الأمثلة العملية على الالتزام بوصية النبي ﷺ: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل».

ويُعَدّ الشيخ عزّ الدين القسّام، الذي تخلّد ذكراه جميع فصائل المقاومة الفلسطينية بإجلال وامتنان، مثالًا فريدًا يدحض الادعاء الشائع بأن "العرب خانوا الدولة العثمانية". ولعلّ اختيار حركة حماس، التي انبثقت من قلب القضية الفلسطينية والعروبة، تسمية جناحها العسكري بـ "كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام" يجسّد بوضوح متانة الصلة التي تربط القضية الفلسطينية بميراثها العثماني. فلو كان صحيحًا ما يُردّد أحيانًا في تركيا من أنّ "العرب لا يُحبّون الدولة العثمانية"، لما رفعت حماس راية عز الدين القسام، الذي تُبرز هويته العثمانية بوضوح.

خلال إحدى زياراتي لفلسطين، توجهت خصيصًا إلى قرية بلد الشيخ، حيث يرقد عزّ الدين القسّام في مقبرة وارفة الظلال تغطيها أشجار الكينا والنخيل والزيتون، في قرية تُعرف اليوم باسم "نيشر" بسبب المستوطنة اليهودية التي أقيمت بجوارها. وما زال الحماس والشغف الذي غمرني أثناء سيري نحو قبره حيًا في داخلي. كان عالمًا جليلًا، وجنديًا عثمانيًا باسلًا، ومجاهدًا مقدامًا، وشهيدًا عظيمًا. إنّ البصمة التي تركها القسّام في وجدان الأمة عميقة إلى درجة يستحيل معها ألّا تهزّ مشاعر أيّ مسلم وتترك فيه أثرًا بالغًا.

عندما سمعت لاحقًا تصريحًا لسياسي صهيوني، لا يستحق أن أذكر اسمه هنا، يقترح فيه "إزالة قبر القسام"، بزعم أنّ "الإرهابيين يجب أن يُمحوا من الذاكرة تمامًا" تذكرتُ مجددًا يوم زيارتي لبلدة الشيخ. إن عز الدين القسام حيٌّ في ذاكرة المسلمين ووعيهم الجماعي، ولا يملك أحدٌ القدرة على محوه أو إزالته، فذاكرة الأمة ليست رهينة قبرٍ أو شاهدةٍ من حجر بل أعمق من ذلك بكثير.

فلنُقل مجددا مرة بعد أخرى، بإصرار وعناد وامتنان: السلام والرحمة على عز الدين القسام.




#حيفا
#عز الدين القسام
#فلسطين
#الاحتلال الإسرائيلي
#الدولة العثمانية