أثار السفير الأمريكي لدى تركيا، توم باراك، تفاعلًا واسعًا بعد مشاركته على حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي تصريحاتٍ تنطوي على ندمٍ "غربي الطابع" وعلى "وعودٍ" أثارت اهتمام الكثيرين. دعونا نلقي نظرة على منشوره الذي انهالت عليه التعليقات بكثافة:
"لقد فرض الغرب قبل قرن من الزمن خرائط، وانتدابات، وحدودًا مرسومة، وحكومات الأجنبية. لقد قسمت اتفاقية سايكس بيكو سوريا ومنطقة أوسع ليس من أجل السلام بل من أجل المكاسب الإمبريالية. وقد كلف هذا الخطأ أجيالاً عديدة. لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى. لقد انتهى عصر التدخل الغربي. المستقبل هو للدبلوماسية التي تقوم على الحلول الإقليمية، والشراكات، والاحترام. وكما قال الرئيس ترامب، 'لقد ولّت الأيام التي كان فيها الغربيون يتدخلون في شؤون الشرق الأوسط ويذهبون إلى هناك ليعلموا الناس كيف يعيشون وكيف يديرون شؤونهم'. إن مأساة سوريا ولدت من رحم الانقسام. أما نهوض سوريا مجددا فيجب أن يكون على أساس الاحترام والوحدة والاستثمار في شعبها. وهذا يبدأ بالصدق والمحاسبة والعمل المشترك مع المنطقة، وليس بتجاوز المشكلة دون القضاء عليها. نحن مع تركيا ودول الخليج وأوروبا، ولكن هذه المرة ليس بالجنود أو الخطب أو الحدود الوهمية".
سياسات ريغان..
من العبارات المحبّبة لدى الدبلوماسيين قولهم: "عندما تكون في روما، تَصرّف كما يتصرف الرومان". والحقيقة أن السفير باراك يعرف كيف يعزف على الأوتار التي نحب سماع نغمتها.
فهل هو صادق فيما يقوله؟
إن خبرتنا مع العلاقات التركية الأمريكية التي تمتد لأكثر من خمسة وسبعين عامًا، وما تراكم فيها من دروس، والتي علّمتنا ألا نصدّقهم حتى لو قالوا "الأرض كروية" وأن نعد أصابعنا عند مصافحتهم، تجعل من الصعب علينا أن نثق بهذه الكلمات.
تصريحات باراك تعكس في جوهرها سياسات إدارة ترامب، أي أنها ليست مجرد مجاملة دبلوماسية، بل ترجمة فعلية لرؤية تلك الإدارة في التعامل مع الأزمات والقضايا الدولية. ومبدأ إدارة رونالد ريغان الذي غالبًا ما يعتمدون عليه نظريًا، يدعو إلى هذا أيضًا. ورغم وجود بعض الفروقات في التطبيق بسبب تغير الظروف والزمان، إلا أنها تتشابه مع ما جرى في ثمانينيات القرن الماضي. والفارق الاستراتيجي الوحيد هو أنهم لم يعد لديهم نفس القدر من المال الذي كان لـ "ريغان"، والذي قال ذات مرة لسحق السوفييت: "جيوبنا أعمق".
في تلك الفترة كان الاتحاد السوفييتي ينهار، والعالم يستعد لنظام دولي جديد. واليوم، تنهار أحادية القطب، ليُفتح الباب مجددًا أمام نظام عالمي بديل. وهنا يكمن التشابه النظري بين المرحلتين.
ونرى هذا واضحًا في طريقة فهمه للخلاف مع إيران، وأزمة سوريا، وحرب أوكرانيا، بل وحتى القضية الفلسطينية.
اتجاه جديد..
في الواقع، إن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي روبيو الأسبوع الماضي في حفل تخرج الكلية الحربية البحرية، بشأن مكانة الولايات المتحدة في العالم وسياساتها الخارجية المرتبطة، تؤكد هذا التوجه الجديد. حيث قال روبيو:
"لقد انتهى عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم. نحن اليوم نواجه تهديدات خطيرة. الصين وروسيا ودول أخرى عازمة على هزيمتنا في جميع المجالات. إن إدارة ترامب ترسم اليوم مسارًا جديدًا للسياسات الأمنية. لن تكون هناك بعد الآن مهامّ غامضة. ولم نعد نستطيع أن نفترض قدرتنا على الخروج من الصراعات دون ثمن. لن تكون هناك بعد اليوم حروب مفتوحة. سننتهج سياسة واقعية".
ولدى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تصريحات مشابهة، بل وأكثر حدة، حيث يقول: "لقد أُرسِل جنودنا إلى دولٍ أجنبية، وأُجبروا على الانشغال ببناء الدول. كل هذا أصبح من الماضي، ولن نكرر مثل هذه الأخطاء. مهمة الجيش الأمريكي ليست تأسيس دول بالقوة العسكرية، بل ضمان أمن البلاد".
وكما يبدو جليًا، فإن السياسة الخارجية الأمريكية وفهمها للأمن العالمي في عهد ترامب يتمثلان باختصار في: رفض الحرب والأزمات. وفي الوقت نفسه تدرك هذه السياسة بدقة الحقائقَ التي أتى بها النظام العالمي الجديد، وهي وجود دول أخرى قد لا تكون بقوة أمريكا، لكنها قادرة على إضعاف هيمنتها، كما تعترف ضمنًا بتذبذب القوة الأمريكية وتراجعها النسبي، وتصف ذلك بأنه حالة "تراجع".
كل هذه المواقف تنسجم مع مفاهيم ونهج عهد ريغان، باستثناء الاختلافات التي أشرنا إليها في الظروف الراهنة.
ولكن ينبغي ألا نغفل عن بعض النقاط الجوهرية. صحيح أن هناك اختلافات عميقة في طبيعة عرض الولايات المتحدة لقوتها، وأن من أسباب ذلك تراجع قدرتها على فرض الهيمنة، وأن صعود قوى جديدة يضيق من هامش النفوذ الأمريكي، وهذا مرتبط مباشرةً بالنظام العالمي الجديد وبالتحولات الاقتصادية العالمية، ولكن تبقى الولايات المتحدة قوة لا يُستهان بها؛ وحتى لو سقطت، فلا يجدر الوقوف في موضع سقوطها.
بمعنى آخر، ينبغي ألا ننسى الشعار المميز لعهد ريغان: "لا نريد حرباً، ولكن إن أردتموها فنحن مستعدون."
ثقوا ولكن تحققوا..
على مدى السنوات الخمس الماضية على الأقل، وبينما استمر الكثيرون في تمجيد "الغرب" وقراءة تطورات العالم من خلال نافذة اليأس البالية، سعينا جاهدين إلى توضيح أن المرحلة القادمة تحمل في طياتها "فرصاً جيواستراتيجية ومخاطر طبيعية"، بل إننا بدأنا نعيش هذه المرحلة فعلاً. وبينما تتخبط كثير من الدول كالدجاج المذبوح، نحاول أن نوضح كيف أن تركيا رأت هذا الواقع واستعدّت له. أما المعارضة السياسية والاجتماعية في الداخل، فقد تمسكت بـ"النظام القديم" باعتباره أساس وجودها، ليس في السياسة الخارجية فقط، بل حتى في السياسة الداخلية؛ كمن يرى في التبعية لأوروبا أو استثمار القضية الكردية وسائل لضمان البقاء. ولكن الأمور أصبحت فاضحة إلى درجة أنهم لم يعودوا يعرفون كيف وإلى أين يوجهون هجومهم، ولم يعد بإمكانهم إنكار ما وصلت إليه الأمور. وهذه البقايا سيتم التخلص منها أيضًا، لأنها لا تستطيع التكيّف، وهذا مخالف لطبيعة الأمور.
وبالعودة إلى البداية..
إذا كانت سياسة البيت الأبيض في عهد ترامب على هذا النحو، فكيف نرسم ملامح استراتيجيتنا بشأن الثقة أو الحذر في التعامل مع هذه الإدارة؟
في الواقع، لا حاجة للبحث عن حل مبالغ فيه. فعندما سُئل ريغان عن كيفية ثقته بالاتحاد السوفيتي، أجاب بجملة أصبحت أشبه بـ"مثل" في العلاقات الدولية: "Trust but verify". (وهو في الأصل مثل روسي، استخدمه ريغان عن قصد).
ويعني ببساطة: "ثق، ولكن تحقق".
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة