"السلام" لا يعني دائمًا الخير، كما لا يعني الشر بالضرورة. فربما يبدأ ببريق من الخير لينتهي بكارثة من الشر.
نحن بحاجة إلى تبسيط ما عاشه العالم يوم الاثنين الماضي لفهم طبيعة الأحداث..
لقد ركّزنا على القاهرة إلى درجة أننا نسينا ما قيل في تل أبيب في اليوم ذاته، بل في الساعات نفسها. غير أن ما قاله الرئيس ترامب في إسرائيل كان كفيلاً بإغلاق الملف برمّته.
إذ أعلن هناك بوضوح: "لقد منحنا إسرائيل أسلحة رائعة، وقد استخدمتها بطريقة رائعة أيضاً"… أي بعبارة أخرى: "نحن الذين قتلنا". فهل تبقى بعد هذا مكانةٌ لأي حوار؟
إن زيارة ترامب لإسرائيل قبل مصر، والرسائل التي وجهها هناك، تشكّل دعمًا صريحًا بل وعدا بإطالة "العمر السياسي" لنتنياهو.
بعبارة أخرى، عندما تنتهي المسائل الإنسانية العاجلة في فلسطين وغزة، لن يضع أحد الأصفاد في يد نتنياهو ويقتاده إلى محكمة جرائم الحرب...
لقد وصل الأمر إلى أن ترامب قال للرئيس الإسرائيلي هرتسوغ: "لماذا لا تُصدرون عفواً عن نتنياهو؟ أصدروا عفواً". قد يعتبرها البعض هدية تقاعد، لكنه قدم أيضاً نصيحة لزعيم المعارضة الإسرائيلية في الكنيست قائلاً: "كن أكثر انسجاماً مع نتنياهو".
بعبارة أوضح، عمّد الرئيس الأمريكي في الكنيست جرائم نتنياهو وما ارتكبه من إبادة جماعية ، ومنحه الغفران السياسي.
ولا عجب في ذلك. فماذا كنا نتوقع عندما يُستقدم توني بلير، الذي قتل الملايين في العراق، لتبرئة من قتل ما لا يقل عن 67 ألف شخص؟
أما أزمة "حضور نتنياهو قمة شرم الشيخ" التي حدثت أثناء انتقال ترامب من إسرائيل إلى مصر فقد كشفت الكثير.
لقد اتخذ الرئيس أردوغان الموقف الحازم المطلوب. ولو أصرّ الآخرون، لسحبت أنقرة دولًا أخرى معها. إذ لم يكن أحد في قمة بهذه الحساسية ليتحمل قرار تركيا بالانسحاب من طاولة المفاوضات أو تجاهل القمة، ولم يتحمله أحد بالفعل.
لكن القضية أعمق من ذلك. فالدعوة التي وُجّهت إلى نتنياهو كانت محاولة لفرض الأمر الواقع، وقد وُجّهت دعوة مماثلة إلى إيران أيضا، أليس هذا غريباً؟ لقد دعا الرئيس المصري طهران شخصيًا. ولكن رُفضت الدعوة، وهذا أمر آخر، ولكن بما أن السيسي لا يمكن أن يتخذ هذه المبادرة بمفرده، فمن الواضح أن الولايات المتحدة وترامب أرادا رؤية تركيا وإيران وإسرائيل على طاولة واحدة وشجّعا على ذلك. لقد حاولوا، لكن التجربة لم تنجح.
إن القبول بـ "نعم ممكن، لا مانع من ذلك" هو جوهر "السلام الترامبي".
من أين جاءته الجرأة لمحاولة جمع دولتين على طاولة واحدة؛ مثل تركيا التي وصلت علاقتها مع إسرائيل إلى حدّ العداء المباشر، وإيران التي خاضت معها حربًا فعلية؟
إن بدء دعم روسيا لخطة ترامب في الشرق الأوسط، أو على الأقل عدم معارضتها سياسياً، يعادل قول: "سنساعد في حل قضية إيران". ليس بمعنى التضحية بإيران، بل بمعنى: "لا تضربوها، فلن تسبب مشاكل". وربما يمكن إضافة التسريع المفاجئ لدمج "بي كي كي/واي بي جي" في سوريا، إلى هذا الإطار أيضًا.
لننتقل إلى القاهرة..
إن الوثيقة التي وُقِّعت هناك تمثل موقفًا ورؤيةً سياسيةً مشتركة، وقد امتد أثرها إلى خمسةٍ وثلاثين دولة، وتتولى القيادة -كما ظهر في المشهد- تركيا ومصر وقطر والولايات المتحدة، ولكن المسؤول الأول عن النص والوعود، والمخاطَب الأول، هو ترامب. فإذا نكثت إسرائيل بوعودها غداً أو بعد غد، يجب مساءلة ترامب أولاً. ولهذا كما ذكرت في مقالي السابق، أعتقد أن عملية وقف إطلاق النار هذه ستستمر لفترة ما لم يحدث انعطاف حاد في السياسة الداخلية الأمريكية - بما في ذلك الانتخابات النصفية عام 2026.
بخلاف ذلك، فلا تحمل الوثيقة أي صفة إلزامية. ولكن إذا حدث شيء معاكس، يمكنك وضع تلك التوقيعات الكبيرة المرسومة بقلم الحبر أمام وجوههم. فالنص بأكمله يؤكد ويعترف بأن هذا "اتفاق ترامب". وهو بالفعل كذلك
حسناً، هذا المشهد أُعدّ أيضاً للعالم وللسياسة الداخلية الأمريكية. وله بُعد يتعلق بروسيا والصين. وهذا يذكرنا بالمرحلة التي وصفناها بـ "المخطط الرئيسي".
"الاستعراض الشكلي"...
إن ترامب هو محور قمة القاهرة، ولكن لا ينبغي اعتبار ما فعله أمرًا طبيعيًا؛ إذ ليس من المعتاد في الأعراف البروتوكولية أن يقوم زعيم دولة بالتقاط صور مع قادة الدول الأخرى واحدًا تلو الآخر. إنه مظهر غير أنيق، ولا يبدو جميلًا من الناحية الشكلية. المطلوب هو صورة جماعية تعكس المساواة بين الأنداد وقوة العلاقة، وقد التُقطت هذه الصورة، وهذا يكفي...
كانت صورة حفل التوقيع هي الإطار الرمزي للقمة. فعندما تضع أربع دول على طاولة واحدة، مع خلفية تحمل أعلامها فقط، بينما يقف ما يقارب 30 دولة "في الخلف"، فإنك تمنح هذه الدول أولوية وأهمية طبيعية. ومن هذا المنطلق، فإن مظهر تركيا وموقعها كانا جيدين. هذه هي دلالة الصورة...
وكذلك، لم يكن هناك "سلام بين إسرائيل وحماس" أو " إسرائيل وفلسطين" واضح، بل كان هناك "سلام الشرق الأوسط". إن "صنع السلام" كانت قدرة فقدتها أمريكا لسنوات، وكانت تُعدّ من قدرات القوة العظمى، وقد عادت للظهور الآن.
وكذلك كانت الأعلام... فقد أحصيت 31 علماً على الشاشة، لكن أصدقاء هناك قالوا إنها 35. فما معنى وجود كل هذا العدد من الأعلام في اتفاق سلام بين إسرائيل وفلسطين وحماس؟
وطُرح السؤال كثيراً حول: "علاقة اليونان، والإدارة القبرصية اليونانية، وغيرها"، لكنني لم أستغرب وجود أعلام هذه الدول، فالأمر برمته يندرج تحت "السلام الترامبي"، بل إن الموقع الجديد للشرق الأوسط هو داخل المربع الذي يضم أرمينيا واليونان ومصر وباكستان، أما الأعلام التي بقيت في الخارج، فهي تعود لـ "صناع اللعبة أو مُشرّعي ترامب".
على سبيل المثال، هل رأيتم بريطانيا على طاولة التوقيع الأمامية أو حتى في الصف الخلفي مباشرة؟ كانت في أقصى الخلف، لكننا نعلم أن نفوذها سيكون حاسماً ومؤثراً.
لقد رأيتم كيف أشاد ترامب في إسرائيل بـ ستيف ويتكوف، الممثل الخاص للبيت الأبيض في إسرائيل؛ لقد أوحى بأنه "هو من أنهى المهمة" وبالغ في الثناء عليه. فماذا يقول ويتكوف نفسه؟ يقول: "يجب أن نُقدّر الدور الحيوي الذي لعبته المملكة المتحدة في دعم الجهود التي أوصلتنا إلى هذا اليوم التاريخي."
ومن أدار هذا "الدور الحيوي"هو جوناثان باور. وإذا كنتم تتساءلون، فقد كان يجلس بجانب الرئيس أردوغان أثناء استقباله لرئيس الوزراء البريطاني ستارمر.
باختصار، المظاهر الدبلوماسية تحمل رمزيةً مهمّة، لكنها لا تُعبّر دائمًا عن الحقيقة.
ونختتم بإضافة هذه النقطة: أسلوب ترامب سيء للغاية. لا يُعرف ما إذا كان يمدح أم يذمّ، فلديه إهانات ساخرة وثقيلة. والأسوأ من ذلك أن زعماء الشرق الأوسط لم يُبدوا اعتراضًا على ذلك. غير أنّ الرأي العام العالمي لاحظ ذلك، ورأى كيف أخفق العديد من القادة في هذا الاختبار. فكانت خطاباتهم أكثر إثارة للحنق من الإهانات التي وجهها ترامب.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة