تُعدّ الصهيونية إحدى أكبر وأقوى التهديدات التي يواجهها العالم الإسلامي. ولا يجب أن يبقى السؤال عن سبب كونها كذلك بلا إجابة. فما دام هذا الخطر قائمًا، فإن دراسة طبيعته ومظاهره تظل مسألة حيوية بالغة الأهمية. وقبل الخوض في التفاصيل، ينبغي التأكيد على أن هذا التهديد الجسيم لا يمكن تفسيره بالمقاربات التقليدية.
إن الصهيونية اليوم تجد تجسيدها العملي في اليهود الصهاينة، لكنهم ليسوا وحدهم من يضفي عليها هذه الهيمنة والقوة. وكما سعينا إلى توضيحه مرارًا، فإن اختزال الصهيونية في أيديولوجية دينية يعني عزلها عن سياقها الحقيقي. فالصهيونية وإن كانت تُلهم السياسات التوسعية لليهود الصهاينة، إلا أنها في جوهرها وليدة أيديولوجيا طورتها الدول الأوروبية في عصر التوسع الاستعماري. ومن هنا، فإن الصهيونية المسيحية تسبق زمنيًا نظيرتها اليهودية. ولكن ينبغي أن نحذر من إضفاء دلالات دينية مفرطة على هذه التعبيرات. فمن الخطأ تصور أن دول أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر كانت تقدّر الدين لذاته، إذ لم تكن تتحرك باسم الدين، بل كانت توظفه أداةً لمآربها.
أحاول شخصيًا قدر الإمكان ألا أستسلم للأجندة المصطنعة حول الإسلام والدولة العثمانية في أيامنا هذه. وفي هذا السياق، ترسخت لديّ قناعة لا تتزعزع بضرورة التعامل بشكٍ مع بعض المقاربات المتعلقة بالفترة الأخيرة من الدولة العثمانية. ومن بين هذه المواضيع، شخصية أنور باشا. ويمكنني القول إنني لا أُعير أي اهتمام لما أُثير حوله من تشويش فكري ومعنوي. وسأسرد هنا واقعة شخصية أظنها جديرة بالتأمل والاهتمام.
خلال سنوات دراستي في إزمير، كان هناك أكاديميون يمكن لأفكارهم أن تنير طريقنا. وكانوا يرغبون أيضًا في التحدث مع الشباب الذين لا يرتبطون بأي جهة، مثلنا. وفي أحد تلك اللقاءات، سألت أحد هؤلاء الأساتذة عن رأيه في شخصية مشهورة اكتسبت شهرة من خلال كتبها ومؤتمراتها في الفترات الماضية. كان ذلك في منتصف الثمانينيات. وكنت أعلم أن الأستاذ يكن احترامًا للشخص الذي نتحدث عنه وكان يناديه "أخي الكبير"، ولهذا كنت أترقب إجابته بعناية. قال الأستاذ: "احترامًا له، أردت أن أستشهد ببعض أعماله كمصدر في رسالتي الدكتوراه، لكنني لم أجد جملة واحدة تستحق الاقتباس." أظن أن آراءنا كانت متشابهة. والمؤسف أن مثل الأفكار السطحية التي لا تستند إلى أساس لا تزال تلقى رواجًا حتى اليوم.
وما يثير قلقي بشدة هو أن الرأي العام بعد كل هذا الوقت لا يزال يعيد تداول المعتقدات القديمة حول أنور باشا والفترة الأخيرة من الدولة العثمانية. أود أن أؤكد بشكل خاص أنني أنظر إلى النقاشات السائدة حول الإسلام من نفس الزاوية. ومن المحزن حقًا أن نكتشف أو ندرك أن شخصيات مشهورة جدًا لا تملك أي فكرة عن أهم مشاكل العالم الإسلامي. ومعظمهم لا يجدون "حلًا" سوى العودة مرارًا وتكرارًا إلى لغة سلبية مثل "يجب أن نبحث عن العيوب في أنفسنا". ولعلنا لهذا السبب بالكاد وصلنا إلى النقطة التي توقفنا عندها عام 1918.
كانت بريطانيا أقوى دولة في القرن التاسع عشر. وما زالت النقاشات حول الصفات التي جعلت البريطانيين أقوياء بعيدة عن سياقها الحقيقي، على الأقل بالنسبة لنا. فالدراسات حول الاستعمار كنظام تُعتبر حديثة العهد نسبيًا. ولعل هذا هو السبب وراء منح أعداء وهميين قوى إلهية في أذهاننا. إن انتشار الأساطير التي لا تتوافق مع الحقائق المتعلقة باليهود يعود إلى نقص الدراسات المنهجية. كما أن غياب إطار تحليلي واضح يجعل من إنجازات المفكرين مجرد صدفة. وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً، أولَينا أهمية لقناعات لا معنى لها حول "أسطورة المحرقة" و"انهزام الأوروبيين أمام اليهود". ومن المثير للدهشة حقًا أن هذين المفهومين يتداولان في الوقت نفسه. هذه المعتقدات الواهية أنتجت بدورها "أسطورة الحصانة الإسرائيلية"، بينما كانت إسرائيل مدينة بكل سمعتها لدعم أمريكا وبريطانيا فقط. أما ألمانيا فقد قدمت دعمها غير المشروط لإسرائيل لمجرد أنها دولة استيطانية جديدة على الأراضي الفلسطينية التاريخية. وأعتقد أن الكثيرين فوجئوا عندما صرح المستشار الألماني بهذه الحقيقة.
الصهيونية هي أيديولوجيا استعمارية. ورغم تمثيل اليهود الصهاينة لها، إلا أن سبب دعم العديد من النخب السياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا لإسرائيل اتضح بعد أحداث غزة. والمقصود بتصريح المستشار الألماني بـ "الأعمال القذرة" هنا هو مهمة التمدين. فـ"تمدين الشرق" نيابة عن الأنجلوساكسون هو "عبء الرجل الأبيض" الذي لا يزال يحمله على عاتقه. ولهذا السبب، ما زالوا يعتقدون أن مئات الآلاف من الفلسطينيين لا يعرفون معنى المعاناة والألم. لقد أظهروا ما فعلوه، بالإضافة إلى ما يمكنهم فعله.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة