
سعت إسرائيل إلى تحقيق أهدافها في ظل الانتداب البريطاني على الأراضي الفلسطينية التاريخية عبر منهجية "التحريض الكامل" (أو الاستفزاز المثالي). وبعد خروجها من الحماية البريطانية كدولة استعمارية، واصلت استخدام المنهجية ذاتها تجاه الدول المحيطة بفلسطين. ويمكن لمن يرغب في استقصاء تفاصيل هذه الطريقة العودة إلى المصادر المتعلقة بـ "حرب الأيام الستة" تحديداً. ولكن المهتمين بتاريخ الصهيونية سيتوجهون إلى أحداث مغايرة للكشف عن مدى أهمية "التحريض الكامل"؛ إذ يُعرف مدى نجاح هذه الطريقة في توجيه يهود شرق أوروبا نحو إسرائيل، كما أتت المنهجية ذاتها ثمارها في دفع يهود العراق نحو الهجرة إلى إسرائيل (ولمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب "العوالم الثلاثة" للمؤرخ آفي شلايم).
وكان المكون الأبرز لإستراتيجية "التحريض الكامل" هو مباغتة الطرف الآخر حين يكون في حالة ضعف. لقد استمد الصهاينة وإسرائيل الصهيونية قوة مفرطة من إدارة الانتداب البريطاني في فلسطين. وللأسف، لا تزال الأبحاث المتعمقة حول دور الانتداب البريطاني قاصرة؛ إذ جرى تهميش الدور البريطاني على نحوٍ منهجي لخلق "أسطورة القوة اليهودية".
بعد الحرب العالمية الثانية، بُذلت كل الجهود اللازمة لصناعة "الأسطورة الإسرائيلية". زكان ضعف الفلسطينيين والدول المجاورة عاملاً حاسماً في نجاح الصهاينة ووصول إستراتيجية التحريض الكامل إلى غاياتها. كما ينبغي تناول الدور الذي لعبه الأردن، عبر تهيئة الأرضية لإسرائيل في كل خطوة، ضمن سياق علاقته ببريطانيا.
ولا أرغب في استخدام تعبير "إيمان الصهاينة بقضيتهم"؛ إذ نعلم من تجارب سابقة مدى ما ينطوي عليه هذا الوصف من تضليل. فقد أُضفيت، ولا سيما في الأوساط المحافظة، أهمية مفرطة على أمثلة اعتُبرت دليلًا على هذا "الإيمان". حتى أن إيمان المستوطنة القاتلة المشهورة دانييلا وايس تم طرحه مؤخرًا. غير أنّ أحداث ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كشفت أنّ مثل هذه التعابير والأمثلة لم تكن سوى أدوات دعائية. وقد رأينا في قطاع غزة أنّ الصهاينة يفتقرون إلى القدرة الحقيقية على خوض الحروب. ومع مرور الوقت، سيتضح أكثر ما يعنيه ذلك.
في الواقع، أعيد إحياء صورة "البيئة المعادية" بعد 7 أكتوبر كما في السابق، وتجدّد الاعتقاد بأنّهم كانوا على حق في كل الحروب التي شنوها، وبدا ذلك مكسباً كبيراً لهم. غير أنّ هذا المكسب كان مشروطًا بشرط بالغ الأهمية: أن يُحسم النصر خلال أيام قليلة. فلو حقّقوا أهدافهم في غزة خلال بضعة أيام، لما تجرّأ أحد على انتقادهم، ولعاد الحديث عن "عقيدتهم" المزعومة لتثير الإعجاب من جديد. ولكن، حين واجههم الفلسطينيون بمقاومة أسطورية، اختلطت الأوراق وتبددت الأوهام. واليوم، لا يتحدث أحد عن "إيمان" الصهاينة بوصفه مثار إعجاب، بل بات العالم أجمع يكنّ لهم الكراهية؛ إذ انكشف أنهم يقومون بالأعمال القذرة حتى لصالح دول مثل ألمانيا. فلم يكن هناك، في حقيقة الأمر، لا إيمان ولا تفانٍ.
بعد أحداث السابع من أكتوبر، تجلّت بوضوح تبعية الصهاينة المطلقة وارتهانهم للحماية الاستعمارية التي توفرها بريطانيا، والولايات المتحدة، وألمانيا، ودول أخرى. وهذا يُظهر أن أسلوب "الاستفزاز المثالي" ينبغي دراسته ضمن سياق أكثر تعقيدًا وتشابكًا. فقد حرص الصهاينة دوماً على إيهام الرأي العام الأوروبي بأنهم يخوضون معركة باسم «الحضارة الأوروبية» في بيئة معادية أو على خطوط التماس الأمامية. وذلك بهدف تحريك هذا الرأي العام لمصلحتهم. وفي سبيل ذلك، عمدوا إلى إنتاج صور نمطية سلبية عن المسلمين؛ إذ شكّلت مفردتا "الإرهاب" و"الإرهابيين" أداةً بالغة النفع في صناعة هذه الصورة. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، لم يكن إنتاج الصور السلبية عن المسلمين أمرًا عسيرًا؛ لأنهم كانوا يدركون أنهم أنهم باغتوهم وهم في حالة ضعف، كما في الحالة الفلسطينية. وشُنّت حملة تشويه شاملة ضد العالم الإسلامي، وينبغي النظر إلى حادثة سلمان رشدي ضمن هذا الإطار أيضًا. وطالما لم تُكسر هذه الحلقة الملعونة، لم يكن ليواجهوا أي مشكلة في إنتاج الصور النمطية ضد المسلمين. ولكن بدأ النظام بدأ يُعاني من خلل ما؛ فحادثة اقتحام قاتلٍ مسجدًا في نيوزيلندا أمام أنظار العالم، وارتكابه مجزرة بحق المصلين بدمٍ بارد، كانت دليلًا على أنّ وصم «الإرهاب» و«الإرهابيين» لم يعد صالحًا لأداء الوظيفة نفسها.
ويُعدّ تنظيم عمل استفزازي مُحكم ضد اليهود في أستراليا، بعد سنوات، حدثًا بالغ الأهمية. ويمكن القول إنهم عادوا إلى الأساليب القديمة، غير أنّ عليهم اليوم أن يُقرّوا بأنّ هذا الأسلوب بدوره لم يعد مجديًا. فقد بات واضحا أنّهم، على خلاف ما كان عليه الأمر في السابق، لم يعودوا يواجهون أطرافًا في حالة ضعف. فما حققوه خلال قرن كامل بفضل "الدول العظمى، خسروه خلال عامين فقط، ولن يكون بمقدورهم قلب هذه المعادلة مجددا.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة