في مقالات سابقة، كنت قد أشرت إلى أن ترامب كان عالقاً بين الصهاينة و«تيارا ماغا» (أنصار شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً")، وأن قراره في هذه الأزمة سيكشف أيَّ الكتلتين المتناقضتين سيرجّح. يبدو واضحاً اليوم أن الرئيس تجاوز هذا المأزق بمهارة بالغة. على الأرجح أنه أبلغ إيران مسبقاً ليُتاح لها نقل اليورانيوم المخصّب إلى مكان أكثر أمناً، ثم قصف المنشآت التي كانت قد أُخلِيت.
ووفقاً لبعض الخبراء العسكريين، حتى وإن استخدمت الولايات المتحدة أقوى قنابلها الخارقة للتحصينات، فإن الأدلة العديدة تشير إلى أن تأثيرها لم يُلحق أضراراً لا تُصلَح بالمنشآت الموجودة في أعماق الجبال. ويبدو أن الإيرانيين عندما شيّدوا تلك المنشآت أخذوا في الحسبان عمقاً يحميهم من مثل هذه الهجمات المحتملة.
لكن ما كان أخطر من حجم الدمار المادي هو جرح الكرامة الوطنية الإيرانية. كانت المسألة الأهم بالنسبة للنظام هي ترميم كرامة الإيرانيين المجروحة قبل إصلاح ما لحق بالمنشآت. وكان الجميع يتخوّف من أن يكون ردّ إيران سبباً في استدراج الولايات المتحدة إلى الحرب بشكل أوسع، فتتحوّل إلى نزاع إقليمي شامل. فقد أعلنت طهران صراحة أنها ستردّ على الهجمات الأمريكية باستهداف القواعد الأمريكية في جوارها.
هنا التقت براغماتية ترامب مع مرونة الدبلوماسية الإيرانية؛ فالأرجح أن هناك تواصلاً سرياً تمّ خلف الأبواب المغلقة.
وفي النهاية، قصفت إيران قواعد أمريكية في قطر والعراق، لكنها فعلت ذلك بعد إبلاغ مسبق، حتى تتخذ واشنطن جميع التدابير الاحترازية، بل ونفذت الضربة بأقل شدة ممكنة – ويُرجَّح حتى أنها سلّمت إحداثيات الصواريخ! وهكذا كان؛ إذ جرى اعتراض معظم الصواريخ في الجوّ، فكانت الأضرار في حدّها الأدنى. وقد شكر ترامب إيران على «دقّتها» هذه بعد أيام فقط من قصفه منشآتها النووية. ثم أُعلن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران.
يبدو أن ترامب تخلّص من مأزقه هذا بمناورة ذكية. فلم يعد لدى أنصار «ماجا» ولا لدى الصهاينة ما يقولونه. فللصهاينة ضرب إيران، ولا أحد في وضع يسمح له بمناقشة مدى نجاح تلك الضربة. وبعد الردّ الإيراني المحدود، أكد ترامب أنه لم يأخذه على محمل الجد كي لا يوسّع المواجهة. وفي النهاية، جاء وقف إطلاق النار الذي أراح قاعدة «ماجا» الداخلية. نعم، شاهدنا مسرحية خيمة حقيقية، لكنها على الأقل حالت – مؤقتاً – دون تحوّل الأمور إلى ما هو أسوأ بكثير.
وهكذا، يمكن القول إن بعض سيناريوهات «الحرب العالمية الثالثة» التي روّجت لها بعض الأوساط، خرجت من التداول حتى إشعار آخر. كذلك نجت القوى الكبرى الأخرى خارج الولايات المتحدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، من هذه الورطة. ولم يتضرّر التبادل التجاري في مضيق هرمز من هذه الاشتباكات والتوترات. أما روسيا فقد عرفت كيف تملأ خزائنها من ارتفاع أسعار النفط الذي رافق هذه الأزمة.
لقد استنزفت الحرب التي استمرت 12 يوماً إيران وإسرائيل معاً من نواحٍ كثيرة. سيكون من الخطأ الكبير، بل من المضلّل، اعتبار وقف إطلاق النار هذا خطوة أولى في طريق نحو سلام دائم. برأيي، هذا الوقف ليس سوى هدنة مؤقتة ليُرمّم الطرفان جراحهما ويلتقطا أنفاسهما ويجمعا قواهما استعداداً لجولة جديدة. لقد حان الوقت لتذكّر التناقض الأزلي بين الحرب وأزمات الرأسمالية المعروفة.
لقد ذكّرني أستاذي الجليل «بولند كورمان» بعبارة للكاتب جورج أورويل، صاحب رواية «1984»، يقول فيها: «الحرب لا تهدف إلى تحقيق النصر، بل إلى أن تستمر.». أما السلام فلا يكون إلا ربيعاً زائفاً يفصل بين حربين.
لقد أعادت الرأسمالية صياغة تاريخ الحروب أكثر من مرة. ففي الحروب القديمة، كانت المعارك النظامية بين الجيوش لا تدوم سوى بضعة أيام في الغالب. بالطبع عُرفت أيضاً حروب طويلة الأمد، مثل حروب الإغريق والفرس، أو الرومان والساسانيين، أو العثمانيين والفرس، لكنها رغم طولها لم تكن مرغوبة كثيراً لأنها غالباً ما تنتهي بلا منتصر حقيقي، فيخسر الطرفان معاً دون تحقيق مكاسب. أما الحروب الحديثة، وخاصةً في أيامنا هذه، فتسير على النقيض تماماً: وفقاً لما أشار إليه أورويل، فهي لا تنتهي بل تمتدّ إلى ما لا نهاية لها مثل مطاط لا ينقطع، ويبقى النصر فيها مبهماً. والسبب الأهم لذلك أن الحرب أصبحت من أكثر القطاعات ربحاً، وصار لصناعة الأسلحة شهية لا تشبع. فكلما طال أمد الحرب واشتدّت حدتها، زادت أرباحهم.
لذلك فإن الافتراض بأن نهاية كل حرب تقود حتماً إلى سلام ما، هو وهم كبير. بل إن انهيار الاتحاد السوفييتي – الذي كان يشكّل الكتلة النصف مركزية الموازنة للرأسمالية المركزية – عمّق هذه الأزمة. إن التحديات «النيوقونية» التي بدأت منذ السبعينيات – عقب الانسحاب من مستنقع فيتنام – لم تبلغ ذروتها إلا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في التسعينيات. كان ذلك الفرح «الليبرالي الفائق» الذي غمر الغرب آنذاك غافلاً عن الأزمات العميقة التي بدأت في السبعينيات، ولم يحسب كيف ستجرّ تلك الأزمات العالم إلى حروب مستمرة.
هناك خطأ آخر خطير، وهو الظن بأن النزعة النيوقونية/الصهيونية تتّسم بهذا القدر من العدوانية بهدف فرض سيطرة مطلقة على العالم. يظن البعض أنه متى ما جرى كسر كل بؤر المقاومة، فإن هذا الجنون سيهدأ بعد أن يحقق مبتغاه. لكن صديقي الصحفي ماهر إيسن قدّم ملاحظة بالغة الأهمية أؤيدها بالكامل: هذه الحروب لا تُشنّ لتُنهي شيئاً أو لتقسّم وتفتّت فحسب. إذ إن التقسيم والتفتيت يُفضي في نهاية المطاف إلى نشوء نظام معيّن مهما كان. لم يتمكّنوا من تقسيم العراق أو سوريا. كان التفتيت طريقاً يلجؤون إليه في العصور الماضية. أما اليوم، ففي العراق وسوريا، يبقون الجميع ضمن وحدة شكلية، لكنهم يزرعون بينهم أسباب الصراع الدائم.
الخلاصة، حلت محلّ سياسات التفتيت «شبكات عدم الاستقرار» القادرة على توليد صدامات في أي لحظة، مثل دمى «الماتريوشكا» التي تخرج من بعضها البعض بلا نهاية. كل حرب تُخاض لتلد حرباً جديدة. كل حرب تفرز قوى متطرفة وهامشية تغذّي صراعاً آخر. إنه دوّامة يمكن تسميتها «الحرب التي لا تنتهي». والسؤال: كيف سنخرج من هذه الحلقة المفرغة؟
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة