روح عام 1492 تعود لتسيطر من جديد

10:439/10/2025, الخميس
تحديث: 26/10/2025, الأحد
سليمان سيفي أوغون

الندم هو شعور إنساني للغاية. كل إنسان، ما عدا من يعانون من اختلالات نفسية، أي الذين تعطلت لديهم المحاسبة الضميرية، يمر بهذه الحالة بدرجات متفاوتة. وقد طورت الأديان مجموعة من الممارسات لتنظيم هذا الشعور. على سبيل المثال، ديننا الإسلامي قد أوجد آلية التوبة استجابةً لدعوة الله. فالتوبة في الإسلام بين الله وبين العبد، أي أنها شخصية للغاية وتتم من الداخل. فالعبد الذي يشعر بالندم على أعماله المحرمة أو المكروهة يعود إلى الله بصمت، ويعبر عن ندمه، ويعد بالتخلي عن كل خطأ ارتكبه. ولا يوجد وسيط في هذه العملية.

الندم هو شعور إنساني للغاية. كل إنسان، ما عدا من يعانون من اختلالات نفسية، أي الذين تعطلت لديهم المحاسبة الضميرية، يمر بهذه الحالة بدرجات متفاوتة. وقد طورت الأديان مجموعة من الممارسات لتنظيم هذا الشعور. على سبيل المثال، ديننا الإسلامي قد أوجد آلية التوبة استجابةً لدعوة الله. فالتوبة في الإسلام بين الله وبين العبد، أي أنها شخصية للغاية وتتم من الداخل. فالعبد الذي يشعر بالندم على أعماله المحرمة أو المكروهة يعود إلى الله بصمت، ويعبر عن ندمه، ويعد بالتخلي عن كل خطأ ارتكبه. ولا يوجد وسيط في هذه العملية.

وعلى النقيض، في المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية، تتم الممارسة تحت إشراف رجل دين من خلال الاعتراف بالخطايا، وهو أحد الأسرار السبعة الأساسية في هذين المذهبين. وبذلك، فإن الندم في الإسلام يبقى تجربة فردية، بينما يُحوَّل في المسيحية إلى ممارسة وسيطية منظمة.


أما البروتستانتية، فقد أعادت تجربة الاعتراف والتوبة إلى طابعها الفردي، أي ألغت الوسطاء. ويُعتقد أن ذلك تطور مريح، لكن عند التدقيق يظهر أن الأمر ليس كذلك، بل إن الممارسة المليئة بالمشكلات أصبحت أكثر إزعاجًا. ويكمن السبب في ذلك في العقيدة المعروفة بـ"الخطيئة الأصلية". فالخطيئة الأولى، المتمثلة في طرد آدم من الجنة، تُعتبر خطيئة عظيمة تربط ليس فقط فاعليها، بل كل مسيحي يولد في هذا العالم. باختصار، كل إنسان يولد مُثقلًا بتبعات تلك الخطيئة. وتؤمن المسيحية بأن صلب المسيح وتحمله الصليب جاء ليكفر عن هذه الخطيئة الكبرى للبشرية.


يمكن القول إن الكنيسة أسست مؤسساتها على المزايا التي توفرها هذه العقيدة. والبروتستانتية لم تتخل عن فكرة الخطيئة الأصلية، بل زادتها ثقلًا ووسّعت تأثيرها ليشمل جميع مجالات الحياة اليومية. فالمؤمن الفردي، بعد إعادة الفردية إلى ممارسة التوبة، يجب أن يشعر بالندم ليس فقط على خطاياه الشخصية، بل أيضًا على الخطيئة الأصلية التي هو جزء منها، وينظر إلى حياته كشكل من أشكال العذاب. وهذا واضح بشكل خاص في العديد من فروع الكالفينية، التي تُشكل الخط العام للبروتستانتية. ومن هنا يظهر أن البروتستانتية تجعل الأمر أكثر صرامة مقارنة بالكاثوليكية.


الله، الذي نُزل في ضمير الإنسان، يأمر عبده بإقامة محكمة داخلية مستمرة وتجريب ألم المسيح داخله. وعمليًا، يجب على الإنسان الابتعاد عن كل أشكال الملذات والفرح، والعمل بجد وكأنه يعذب نفسه. وقد كتب المؤرخ ماكس فيبر أن هذا المنظور ساعد على تراكم رأس المال الرأسمالي، إذ إن المسيحي الذي يعمل متعبًا لا يستخدم ما يكسبه لنفسه، بل يعيد استثماره وكأنه يريد التخلص منه.


لقد أجبرت ممارسات المسيحية التقليدية والحديثة على مدى آلاف السنين أجيالًا لا حصر لها على العيش تحت شعور دائم بالذنب. وبغض النظر عن البُعد اللاهوتي، فإن لهذا الشعور بعدًا نفسيًا دائمًا. فقد أثرت هذه الحالة بشكل واسع في الفن والأيديولوجيات. وحتى مع عولمة الأجيال الحديثة وانقطاع بعضهم عن الدين كليًا، لم يتغير الأمر. فالذنب النفسي متغلغل في جذور الإنسان الغربي.


خلال الحرب العالمية الثانية، ارتكب النازيون مذابح بحق اليهود، وبعد انتهاء الحرب، استمر التعامل مع هذه المذابح تحت شعور بالذنب. وبالطبع، الألمان الذين كانوا الفاعلين المباشرين هم الأكثر تحميلًا للذنب. لكن يوجد الآن تمثيل حديث وعالمي للخطيئة الأصلية، وهو الهولوكوست أو الإبادة الجماعية. فالذين يُتهمون ليسوا فقط من ارتكبوا الجرائم، بل حتى أولئك الذين لم يكونوا موجودين أثناء الهولوكوست، مثل جيل "بيبي بومر"، يولدون وهم مسؤولون عن الذنب. وكل جيل، عندما يأتي دوره، سيدخل غرفة الاعتراف بالخطايا، وسيبقى فيها طوال حياته ويشارك في الطقوس المتعبة. هذه الخطيئة فريدة ولا يمكن التخفيف من وزنها أو مشاركتها مع شيء آخر. بالإضافة إلى الألمان، ستشمل هذه الدائرة أيضًا الأمم الغربية الأخرى التي مارست معاداة السامية في تاريخها. وبذلك تصبح هذه الخطيئة خطيئة أبدية وعالمية لا تزول.


سبب هذه المقدمة الطويلة هو الإشارة إلى الانكسار الكبير الذي نعيشه حاليًا. بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الأعمدة الثقافية للهيمنة اليهودية على العالم في الانهيار، وما يهدمها الآن ليس سوى نتنياهو وحلفاؤه. وما يُتوقع من الرأي العام اليهودي العاقل هو إدانة نتنياهو وشركائه بالخيانة للقضية اليهودية وتحويلهم إلى المحاكمة.


لقد ارتكب نتنياهو والفاشيون الإسرائيليون، أمام أعين العالم، إبادة جماعية بحق أهل غزة، الأمر الذي اعتُبر بالنسبة للغربيين "خدمة عظيمة" لهم. لم يعد الإبادة حقًا حصريًا لهم، بل قام بها قوم سبق أن تعرضوا هم أنفسهم للإبادة. وسائل التواصل الاجتماعي تنهار، والساحات تمتلئ بالآلاف والملايين، يصرخون ويستنكرون إسرائيل، ويؤكدون في شعاراتهم الربط بين إسرائيل والإبادة الجماعية. إنه نهاية الأسطورة: إسرائيل الإبادية.


الغرب، بعد قرن من الغضب، يخرج من “غرفة الاعتراف بالخطايا” المظلمة، ويصرخ بما يكاد يكون منذ قرن كامل. هذا دليل على الهزيمة الكبرى لإسرائيل، التي رغم محاولاتها التوسعية تتعرض لسلسلة من الانكسارات. نعم، الثمن كبير، لكنه لا يغير النتيجة. لم يعد قياس الحضارة مرتبطًا بالاعتبارات الدقيقة لتأييد إسرائيل، فالغرب يتحرر من عبء التاريخ.


وماذا بعد ذلك؟ من الواضح أن الأمور ستزداد سوءًا مقارنة باليوم. الغرب يتجه بسرعة نحو جذوره، وسيؤدي ذلك إلى انتشار معاداة السامية بين الرأي العام الغربي. لكن العالم الإسلامي لا يجب أن يفسر هذا على أنه خير. فموجة معاداة السامية الجديدة تصاحبها صعود تفوق المسيحي الأبيض الجديد، ويظل العالم الإسلامي مستهدفًا. الحروب الصليبية الجديدة ترى كل من ليس منهم عدواً: يهوديًا، مسلمًا أو أي عنصر آخر. إنها نوع من الاسترداد الجديد، روح عام 1492 تعود لتسيطر من جديد.

#1492
#الندم
#معاداة السامية
#الغرب
#تركيا