
يبدو أنّ جمع باكستان والهند معًا في إطار يتوافق مع توقعات ترامب أمر بالغ الصعوبة. كما أن إدخال أفغانستان في هذه المعادلة يعكس بدوره مسارًا لا يقل تعقيدًا ومشقة.
وعندما نأتي إلى جغرافيا تركستان، نجد أن المشهد هناك أكثر تعقيدًا وتداخلًا. فدول مثل كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وقرغيزستان، ويمكن إضافة طاجيكستان إليها، تُغري ترامب بما تمتلكه من موارد هائلة وأدوار استراتيجية بارزة. أما التوجّه الذي بدأ يبرز مؤخرًا لدى النخب السياسية القائمة في هذه الدول، فيتمثل في السعي إلى تجاوز ضغط روسي استمر قرابة قرنين من الزمن. ولهذا التوجه مساران رئيسيان: الأول تعميق العلاقات مع الصين على المستوى الإقليمي، والثاني الانخراط التدريجي مع الغرب على المستوى العالمي.
وهنا لا بد من التذكير بحقيقة ينبغي عدم إغفالها: فهذه الجمهوريات ذات الأصول التركية لا تنظر إلى تطوير علاقاتها مع تركيا بوصفه قيمة أو هدفًا بحد ذاته. فالغالبية الساحقة من هذه الدول ترى في تركيا—باعتبارها أكثر دول المنطقة قربًا من أوروبا وارتباطًا بها، وعضوًا في حلف شمال الأطلسي—أداة تساعدها على تعزيز تقاربها مع الغرب. ويُعد موقفها من قضية قبرص أوضح دليل؛ إذ لم تتردد في تجاهل مصالح تركيا والاصطفاف إلى جانب الأطروحات الغربية، في مؤشر بالغ الدلالة على رؤيتها الحقيقية.
وانطلاقًا من ذلك، بات من الضروري إعادة صياغة سياسات تركيا تجاه منظمة الدول التركية بما يساهم في معالجة هذا الواقع وتجاوز تبعاته.
أما توسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في آسيا، فكيف ستتلقاه روسيا والصين؟ هذا سؤال قائم بذاته، وتبدو الإجابة عنه محمّلة بالاحتمالات. فمن المتوقع أن تُبدي روسيا مقاومة شديدة للحفاظ على ما تعتبره "حديقتها الخلفية". وحتى وإن لم نشهد حتى الآن تصعيدًا دراميًا، فإن ذلك لا يعني أنه لن يحدث. فإذا كانت موسكو قد خاضت حربًا واسعة بسبب أوكرانيا، فليس من المنطقي افتراض أنها لن تتخذ موقفًا مشابهًا تجاه كازاخستان، إن رأت في ذلك ضرورة استراتيجية.
واللافت أنّ الهدوء الروسي الحالي—وهو هدوء لم نعتده في الظروف العادية—لا يبشر بالخير. وهناك بالفعل مؤشرات مقلقة؛ فقد لفتت الأنظار المناوشات الأخيرة بين بوتين ورئيس كازاخستان، الأمر الذي يؤكد أنّ التوتر بين كازاخستان وروسيا مسألة يجب متابعتها عن كثب.
وفي هذا السياق، يجب التوقف عند أذربيجان. فهذه الدولة الشقيقة حققت قفزة كبيرة بعد انتصارها في كاراباخ، وأصبحت تتجه بوضوح نحو الاندماج مع الغرب حتى لو كان ذلك على حساب القطيعة النهائية مع روسيا. والرئيس علييف لا يتردد في اتخاذ خطوات جريئة لصالح بلاده وشعبه، وهو الأشد انتقادًا لروسيا في الخطاب الرسمي بين قادة المنطقة.
وإلى جانب الحصار الذي يعيشه الأرمن، والروابط العسكرية المتينة مع تركيا وباكستان، والعلاقات العميقة مع إسرائيل، تتعزز مكانة علييف إقليميًا. وهذه الانفتاحات من جانب باكو تُثير استياءً شديدًا لدى إيران، وتجعل أذربيجان أقرب من أي دولة تركية أخرى إلى الخط الغربي بصورة سريعة وصريحة. وهي أيضًا مرشحة لتكون المركز الأهم في مشروع ربط شرق المتوسط ببحر قزوين الذي طُرح سابقًا.
وهنا يبرز اختلاف مهم بين سياسات تركيا وأذربيجان الخارجية، بل ويمتد ليشمل باكستان جزئيًا. ففي حين تتطور العلاقات الأذربيجانية-الإسرائيلية بشكل ودي، تتمسك تركيا وباكستان—خلافًا لأذربيجان—بخط مناهض للصهيونية، وتُعدّان من أبرز خصوم إسرائيل. وهذا الوضع يحمل جوانب إيجابية وأخرى سلبية. فإذا انتهجت إسرائيل مستقبلًا سياسة أكثر اعتدالًا وتخلت عن التطرف الصهيوني، فقد تساهم علاقاتها الجيدة مع أذربيجان في تهيئة بيئة تسمح بتحسن العلاقات التركية-الإسرائيلية. أما إذا لم يحدث ذلك، فمن الصعب التنبؤ بالطريقة التي قد تندلع فيها أزمات في هذه العلاقات المتشابكة.
وبالتوازي، فإن التحالف الاستراتيجي المتنامي بين إسرائيل والهند—والذي يشمل اليونان في شرق المتوسط—يثير قلقًا كبيرًا لكلٍّ من تركيا وباكستان.
وأخيرًا نصل إلى الشرق الأوسط. من الواضح أن ترامب وباراك يسعيان إلى دفع تركيا نحو مصالحة سريعة مع إسرائيل وجرّها إلى خط سياسي موالٍ للغرب. لكنهما في الوقت نفسه لم يتراجعا عن مشروعهما الهادف إلى إعادة هيكلة سوريا بنموذج فدرالي أو شبه فدرالي، يتضمن كيانًا ذاتيًا لتنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي. وهما يطالبان تركيا بقبول هذا النموذج، وكذلك بوقف دعم حركة حماس. ومن المستبعد للغاية أن توافق أنقرة على مثل هذه الشروط.
وغالب الظن أن تركيا عبّرت بوضوح عن موقفها الحازم خلال اجتماعات واشنطن الأخيرة. ورغم وجود تحسن ملموس في حرارة العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بعد فتور شديد في عهد بايدن، فإن ثمار "الصداقة الشخصية" بين ترامب وأردوغان لا تبدو كبيرة حتى الآن. فبعيدًا عن ملف الطائرات المقاتلة من طراز إف-35، لم نشهد أي تقدم يذكر حتى في ملف الطائرات المقاتلة إف-16 التي قيل إن الكونغرس وافق على بيعها. كما أن العقوبات الأمريكية ما زالت قائمة رغم التصريحات عن نية رفعها.
ويثير هذا السلوك الأمريكي تساؤلات: هل تريد واشنطن الحصول على كل شيء دون أن تمنح تركيا أي شيء بالمقابل؟ وفي الوقت نفسه، تتسارع خطوات التقارب بين الولايات المتحدة واليونان، فيما يُطلب من تركيا—ولو على سبيل التلميح حالياً—التقليل من اعتمادها على الطاقة الروسية، بينما تتحول أليكساندروبولي إلى قاعدة عسكرية ومركز طاقة في آنٍ معًا.
ولا شك أن لتركيا حدودًا ستقول بعدها "كفى". وحتى الآن تتصرف بهدوء وروية، لكن المستقبل غير مضمون. ومن الصعب أن تتحقق خطط ترامب الكبرى في المنطقة إذا كانت ستكلّف الولايات المتحدة خسارة تركيا. فهل يمكن لواشنطن أن تكسب تركيا عبر إضعافها وتوقّع أن تتقبل أنقرة تلك الخسائر؟ سؤال ينبغي على الولايات المتحدة أن تطرحه على نفسها.
الخلاصة: نحن أمام مسار لا تزال نتائجه محدودة، غامض، ومثقل بتشابكات خطة كبرى ترتطم بقضايا محلية فتسير ببطء وتعثر. ويبدو واضحًا أن أمام هذا المشهد الكثير من الوقت قبل أن تتضح ملامحه… فهذه العجينة لا تزال تحتاج إلى الكثير من الماء.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة