الأخلاق والسياسة في الإسلام

08:283/06/2025, الثلاثاء
تحديث: 3/06/2025, الثلاثاء
ياسين اكتاي

السياسة في جوهرها فعل أخلاقي. إنها شكل من أشكال الوجود يبدأ بالتجلي منذ اللحظة التي يشرع فيها الإنسان في تغيير العالم. فمن بين جميع المخلوقات، لا يوجد كائنٌ سوى الإنسان يمتلك الإرادة والقدرة على تغيير العالم وجعله مختلفًا عما هو عليه. وقد وهب الله هذه الصفة إلى الإنسان كأمانة. وعندما يحمل الإنسانُ هذه الأمانة وينطلق لتغيير العالم، فإنه يواجه خيارين لا ثالث لهما: إما أن يعمر الأرض، أو يقع في براثن الفساد والإفساد فيحوّلها إلى أسوء مما هي عليه. ولهذا عندما أخبر اللهُ الملائكةَ بأنه سيجعل في الأرض

السياسة في جوهرها فعل أخلاقي. إنها شكل من أشكال الوجود يبدأ بالتجلي منذ اللحظة التي يشرع فيها الإنسان في تغيير العالم. فمن بين جميع المخلوقات، لا يوجد كائنٌ سوى الإنسان يمتلك الإرادة والقدرة على تغيير العالم وجعله مختلفًا عما هو عليه.

وقد وهب الله هذه الصفة إلى الإنسان كأمانة. وعندما يحمل الإنسانُ هذه الأمانة وينطلق لتغيير العالم، فإنه يواجه خيارين لا ثالث لهما: إما أن يعمر الأرض، أو يقع في براثن الفساد والإفساد فيحوّلها إلى أسوء مما هي عليه. ولهذا عندما أخبر اللهُ الملائكةَ بأنه سيجعل في الأرض خليفة، قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟}، فأجابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

وتتواصل الآيات لتخبرنا أن الله علّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضها على الملائكة. فالأسماء، واللغة، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، تُعد من أهم القدرات التي وهبها الله للإنسان ليؤدي رسالته في الأرض. والسياسة جزءٌ لا يتجزأ من هذه الملكة؛ ولذا فإن فساد العالم يقترن بفساد اللغة، أو إن تعرض العالم للفساد يحدث دائمًا بالتوازي مع تحريف لغوي.

وفي إطار العمل السياسي، يقف الإنسان أمام مجال واسع يتأرجح بين الإعمار والإفساد، فالذين يفصلون بين السياسة والتديُّن، وخاصةً التديُّن الخالص، فإنهم يشوّهون الدين بوضعه تحت وصاية سياسة فاسدة، مما يُفقده تأثيره. وفي هذه الحالة، لا يبقى تحت اسم "التديُّن" سوى صنميةٍ مبطَّنة. ولا فرق إن كانت هذه الصنمية ستار تدين صوفي بحت أو مظهر زهد في الدنيا، فالحقيقة أن الإنسان لا يستطيع الانفصال عن السياسة بأي حال، فبمجرّد أن يتدخل في العالم بكلمة أو فعل، يكون قد دخل دائرة الفعل السياسي، وبمجرّد أن يحدد علاقاته على أساس "نحن" و"الآخرون"، أي بمجرّد أن يعرف من هم أصدقاؤه ومن هم أعداؤه، يكون قد مارس فعلًا سياسيًا بامتياز. فمن هم أصدقاؤك؟ ومن هم أعداؤك؟ ومع من تفرح؟ ومع من تتسامر؟ ومع من تحزن؟ ولماذا تفرح مع هؤلاء الأصدقاء وتبكي معهم؟ ولأي طرف تميل، وضد أي طرف تقف؟ ولماذا؟

وحتى أولئك الذين يدّعون اليوم أنهم أبعد ما يكونون عن السياسة، يجدر بهم أن يختبروا أنفسهم عند هذه النقطة؛ حينها سيدركون فورًا مدى قربهم أو بعدهم الفعلي عن السياسة.

ومن الجلي أيضًا أن السياسة بطبيعتها تنطوي على رغبة في القوة أو إرادة للسلطة. وقد أشار نيتشه، ومن جاء بعده من المفكرين السياسيين، إلى أنّ "الرغبة في القوة" هي نزعةٌ متأصلة في الطبيعة البشرية ذاتها. وبهذا، يُرجِعون الطابع السياسي إلى أعمق مستويات الوجود الإنساني. وهذا في حقيقته يُعدّ أحد أكثر التشخيصات بساطة وواقعية لطبيعة الإنسان. غير أن القضية الأساسية تكمن في كيفية توجيهها ولصالح من تُستخدم.

ففي طبيعة الإنسان أيضًا نزعة للتمَلُّك والمطالبة به، وهذه النزعة تجعله، في كل لحظة، عرضة لأن يشرك بالله عزّ وجل. إذ أن المُلك لله وحده، والحكم له دون سواه. وكلما رغب الإنسان في امتلاك القوة لنفسه، ازداد ميله لاستخدامها ضد مشيئة الله الذي خلقه ووكّله بمهمة إعمار الأرض، وحمّله أمانة الخلافة، فيقع عندها في خطر التألّه أو عبادة المتألّهين من البشر. وهنا يتحقق الفساد في الأرض كما توقّعته الملائكة.

وعلى نحو أكثر تحديدًا، فإن السؤال الذي ينبغي أن يظل حاضرًا في أذهان المسلمين على الصعيد السياسي هو: إلى أي مدى يتوافق سلوكهم السياسي مع مهمة إعمار الأرض التي كُلّفوا بها؟ بل ينبغي أن يشكِّل هذا السؤال ضغطًا جادًّا على منهجهم السياسي، إضافة إلى الأسئلة التالية: هل المناصب والمواقع المطلوبة والمكتسبة في السياسة تُستخدم بطريقة تليق بكرامة الإنسان، وتتماشى مع العبودية الخالصة لله؟ من أجل من تُطلب القوة؟ ولصالح من تُستخدم؟ وهل يرى الإنسان أن القوة التي أوتيها أمانة أُودعت عنده؟ أم يراها مكتسبة بجهده وينبغي أن يتمتّع بها إلى أقصى حدّ؟ وهل ينظر إلى منصبه السياسي كفرصة يجب استغلالها، أم كـ"جمرةٍ موكولةٍ إليه" تحرق يداه إن أخلَّ بها؟

من الجلي أن ما يثيره طه عبد الرحمن في أذهاننا عند حديثه عن مبدأ وحدة الأخلاق وأخلاق السياسة ينبغي أن يدفعنا إلى التأمل في ذواتنا. وهذه الأسئلة ملحّة، على العاملين في الحقل السياسي أن يطرحوها على أنفسهم بين الحين والآخر؛ ماذا نفعل في السياسة؟ ولماذا بدأنا هذه الرحلة؟ وأين وصلنا؟ وماذا بعد ذلك؟

عندما نرى السياسة كرحلة وجودية، فإن تلك الأسئلة لا تكون حكرًا على أحد، ولا يجوز لأحد أن يحتكرها ليحاسب بها غيره، أو يجعل منها ذريعة لممارسة سلطة على سواه. وحتى أولئك الذين لا يتقلدون مناصب سياسية، مطالبون هم أيضًا بطرح هذه الأسئلة على أنفسهم. إذ إن السياسة، في جوهرها الأعمق، تقوم على تحديد العلاقة بين الصديق والعدو. فأين نقف نحن ضمن هذه العلاقة؟ وإذا كانت الإسلاموية، بوصفها وعيًا بالانتماء إلى الإسلام، تعود إلى الإنسان الأول، ألا يكون جوهرها: الوقوف مع الأخيار ضد الشر والشيطان، والانحياز إلى الخير؟

أما الذين يرون السياسة مجرد وسيلة لتحقيق مصالحهم الشخصية حتى لو بدأوا بنوايا سامية، فإن مصيرهم عاجلاً أم آجلاً هو الانضمام إلى صفوف الأشرار. فالسياسة عند المسلمين هي في المقام الأول والأخير، إعمار الأرض في سبيل الله وباسم الله، تقوم على الصداقة والتضامن والتعاطف مع الأخيار والمؤمنين.

لكن ماذا يعني أن نجد أولئك يرون السياسة أمرًا دنيئًا لا ينبغي أن يمس الدين، بل ولا الإسلام، من قريب أو بعيد، هم أنفسهم غارقون في السياسة حتى النخاع؟ أليس ما يقومون به هو شكل من أشكال مكر الإنسان المتأله، الذي يسعى إلى استبعاد دين الله من حياته وشؤونه حتى لا يكون تحت رقابته وحكمه؟


#الأخلاق
#السياسة
#الإسلام
#الخير والشر
#السلطة
#الدين