كم من شموس تغرب في فلسطين!

08:393/06/2025, الثلاثاء
تحديث: 3/06/2025, الثلاثاء
سلجوك توركيلماز

لعلّ إدراك التغيرات الجذرية التي يشهدها العالم منذ السابع من أكتوبر 2023 سيتطلب زمناً طويلًا. صحيح أن الغزّيين، وسائر الشعب الفلسطيني تعرّضوا لواحدةٍ من أعظم الكوارث التي قد تسجّلها صفحات التاريخ، لكن فداحة هذا الدمار لا يمكن أن تُفسَّر بوصفها خسارة فلسطينية محضة. فإذا كُتب للحلم الفلسطيني بأن يتحوّل يومًا إلى واقعٍ، وتمكّن الشعب من إقامة دولته المستقلة على أرض وطنه، فإنّ أحد أهمّ المحطات التي مهّدت لهذا الانتصار دون شك سيكون ما أعقب السابع من أكتوبر من مقاومة بطولية. فمنذ ذلك اليوم، وقطاع غزة يتعرض

لعلّ إدراك التغيرات الجذرية التي يشهدها العالم منذ السابع من أكتوبر 2023 سيتطلب زمناً طويلًا. صحيح أن الغزّيين، وسائر الشعب الفلسطيني تعرّضوا لواحدةٍ من أعظم الكوارث التي قد تسجّلها صفحات التاريخ، لكن فداحة هذا الدمار لا يمكن أن تُفسَّر بوصفها خسارة فلسطينية محضة. فإذا كُتب للحلم الفلسطيني بأن يتحوّل يومًا إلى واقعٍ، وتمكّن الشعب من إقامة دولته المستقلة على أرض وطنه، فإنّ أحد أهمّ المحطات التي مهّدت لهذا الانتصار دون شك سيكون ما أعقب السابع من أكتوبر من مقاومة بطولية. فمنذ ذلك اليوم، وقطاع غزة يتعرض لأبشع صنوف الإبادة على أيدي أعتى قوى العالم، إلا أنّ شعبها المسلم، برجاله ونسائه وأطفاله، لم يتراجع عن الصمود قيد أنملة. وخلال هذه المرحلة شُبّهت المقاومة الفلسطينية تارةً بمعركة ستالينغراد، وتارةً أخرى بتجربة فيتنام. ورغم أهمية هذه المقارنات في محاولة فهم ما يجري، لكنها تبقى محدودة؛ فلا الأيديولوجيا السوفييتية، ولا دفاع الفيتناميين عن وطنهم، استطاعا أن يُظهرا للعالم الوجه الآخر للحضارة الغربية كما أظهره الفلسطينيون بصمودهم. لقد انتصر الفلسطينيون في هذه الحرب الكبرى انتصارًا رمزيًّا وأيديولوجيًّا، ودوّنوا بذلك واحدةً من أعظم الانتصارات التي سيسجلها التاريخ.

ولا يُفهم من ذلك أننا نصور الحقائق التاريخية بالشكل الذي نرغب في رؤيته، أو أنّنا نؤمن بواقعٍ نتخيله، مُتجاهلين فداحة الخراب والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي. كما لا يصحّ أن يُختزل مفهوم الواقعية في مجرّد النظر إلى الوقائع الظاهرة كما هي، واتخاذ مواقف "عقلانية" بناءً عليها كما يُظنّ. فلو كان الأمر كذلك، لما تمكنا من فهم كلمات شاعر الاستقلال محمد عاكف حين قال: "يا رب كم من شموس تغرب في سبيل هلال واحد!" إذ لم يكن يُجري مقارنةً بين الهلال والشمس، بل كان يُشير إلى القيمة الرمزية للهلال، ولم يكن هذا رثاءً، بل تجسيدا لمقام الشهداء في عبارات تليق بهم. لقد استخدم الشمس مجازًا ليبيّن عظمة من استُشهدوا في سبيل راية الإسلام، فكما هو معلوم، كان الهلال رمزًا للإسلام لقرون. ومن المهم هنا أن نفرّق بين المجاز والرمز؛ فالصراع بين الهلال والصليب هو في جوهره صراع رموز. وعليه فإنّنا حين نرى أبناء غزة والضفة والقدس يُستشهدون يومًا بعد يوم، فإنّ أقلّ ما يمكن أن فعله أن نذكرهم باحترام ونقول في وداعهم على خطى محمد عاكف: "كم من شموسٍ تغيب". ومهما بلغ من الصعوبة أن نُعبر عن هذا الموقف أو أن نعيشه وجدانيًا، فإننا رغم ضخامة الخراب يمكننا أن نُدرك من هم الخاسرون الحقيقيون في هذه الحرب.

وانطلاقًا من رمزيّة الهلال والصليب، لا بدّ لنا من طرح السؤال المحوري: من هم فعليًا ممثلو الحضارة الغربية اليوم؟ ولنُوجِز السؤال بطريقة أوضح، هل الصراع الحالي للفلسطينيين هو مع الغرب المسيحي فقط، أم مع من يمثلون الفكر التنويري؟ لا شكّ في صعوبة رسم حدود فاصلة بين هذه الأطراف، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ من شارك فعليًا في إبادة الفلسطينيين على مدى أكثر من ستمائة يوم هم الألمان والبريطانيون والأمريكيون. ومن الواضح أنّنا مطالبون بمواجهة هذه الحقيقة دون مواربة.

في السابق، كان يُشار إلى موقف ألمانيا "المهزوم" أمام اليهود، لكن الفلسطينيين فضحوا زيف هذا الادعاء ومزقوا الستار القذر التي تخفيه. فوراء الدمار الهائل في غزة، يمكننا رؤية بصمة ألمانيا بوضوح. ولم تتبنَّ ألمانيا الصهيونية وتشارك في كل جرائم إسرائيل لأنها "مذعورة ومهزومة"، بل لأنها تمثل إيديولوجيا تجسد الحضارة الغربية. ولابد أن ندرك أنهم فعلوا ذلك بشغف كبير. مِن كونراد أديناور إلى فريدريك ميرتس، وقف مستشارو ألمانيا إلى جانب إسرائيل الصهيونية بتفانٍ كبير. والأهم هنا ليس موقف ألمانيا من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، بل إصرارها على الإيديولوجيا التي تهدف إلى طرد الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم ووطنهم. ولا يمكن إقامة علاقة مباشرة بين الهولوكوست وتهجير الفلسطينيين من وطنهم. فالهولوكوست - كما يعرف المطلعون - كانت إحدى المشاكل الداخلية للحضارة الغربية. ولهذا السبب بالذات، عندما طُرحت فكرة استعمار شرق المتوسط، دعمها القيصر الألماني علانيةً. إن أيدي ألمانيا ملطخة بدماء الفلسطينيين.

كما كانت الإمبراطورية النمساوية المجرية تؤيد إقامة دولة استعمارية تمثل الحضارة الغربية في شرق البحر الأبيض المتوسط. ولا يمكن تفسير الدعم الشغوف الذي يقدمه المجريون لإسرائيل اليوم إلا في هذا الإطار. أما ولاء البريطانيين والأمريكيين للصهيونية فهو أكثر وضوحًا. فهم من صمموا وأسسوا إسرائيل كدولة استعمارية. وهذا يحتاج إلى تحليل منفصل.

كل هذه الحقائق تبيّن حجم الحرب الكبرى العظمى التي يخوضها الفلسطينيون. فممثلو الحضارة الغربية يمارسون بكل بوضوح عملية تطهير عرقي ضد الفلسطينيين.


#فلسطين
#السابع من أكتوبر
#اليهود
#الصهاينة
#الاستعمار
#أمريكا
#الحضارة الغربية
#ألمانيا
#الهولوكوست
#غزة