هل بدأت الرياح تجري بما لا تشتهي السفن؟

09:2321/07/2025, الإثنين
تحديث: 30/07/2025, الأربعاء
سليمان سيفي أوغون

إن تَحوّل مفهوم "النظام العالمي" إلى واقع ملموس يرتبط بتوافر شروط معينة. فوفقًا للمعطيات التاريخية، لم يُسجَّل قيام نظام عالمي يستند إلى هيمنة قوة واحدة بشكل مطلق. بل إن تأسيس مثل هذا النظام يتطلب وجود قوتين رئيسيتين على الأقل، غير قادرتين على التغلب على بعضهما البعض، وقادرتين على خلق توازن متبادل. وغالبًا ما تُنشئ كل من هاتين القوتين أنظمة تابعة أو حلفاء خاصين بها. وهنا يصبح من الضروري أن يكون هناك توزيع متوازن بين هذه الكتل. وتُعد هذه شروطًا حدّية لا غنى عنها. كذلك، يجب أن تتمتع البُنى الداخلية

إن تَحوّل مفهوم "النظام العالمي" إلى واقع ملموس يرتبط بتوافر شروط معينة. فوفقًا للمعطيات التاريخية، لم يُسجَّل قيام نظام عالمي يستند إلى هيمنة قوة واحدة بشكل مطلق. بل إن تأسيس مثل هذا النظام يتطلب وجود قوتين رئيسيتين على الأقل، غير قادرتين على التغلب على بعضهما البعض، وقادرتين على خلق توازن متبادل. وغالبًا ما تُنشئ كل من هاتين القوتين أنظمة تابعة أو حلفاء خاصين بها. وهنا يصبح من الضروري أن يكون هناك توزيع متوازن بين هذه الكتل. وتُعد هذه شروطًا حدّية لا غنى عنها.

كذلك، يجب أن تتمتع البُنى الداخلية لهذه الكتل بتماسك وانسجام؛ سواء من حيث التنظيم الاقتصادي أو السياسي أو القانوني أو الأيديولوجي. صحيح أن التوازن لا يبدو للوهلة الأولى منظومةً مكتملة، ذلك أن مفهوم "النظام" يتطلب انسجامًا داخليًا بين عناصره، وهو ما قد يبدو غائبًا هنا، إذ إن التوازن ينبثق من التناقضات. لا بل إن الاختلافات الهيكلية الأيديولوجية تُعزز من عمق هذه التناقضات.


فمثلًا، حين نتأمل في العالم خلال الحرب الباردة، يتكوَّن لدينا انطباع وكأننا أمام عالم منقسم بوضوح إلى الأبيض والأسود، عالم قائم على قطيعة مطلقة. غير أن الحقيقة في العمق لم تكن كذلك. لقد كان هناك عالم واحد فقط، نُطلق عليه اسم "النظام العالمي"، وكانت التناقضات الظاهرة على السطح مجرد فروق شكلية. وإذا أمعنّا النظر، نرى أن النظام الحقيقي كان يُبنى في العمق، وأن التناقضات الظاهرة على السطح إنما كانت زائفة ومصطنعة، وُجِدت فقط لإبقاء النظام العميق حيًّا.


النظام العالمي الذي تأسّس عقب الحرب العالمية الثانية كان يُجسِّد هذه الشروط بدقة. ومن هنا، لم يكن تفكّكه فأل خير. فالحقيقة أن سقوط الاتحاد السوفييتي لم يكن نتيجة تفوق الرأسمالية بقدر ما كان نتيجة أزماتها الذاتية، التي ما هي إلا وجه آخر من أوجه المنظومة نفسها. لم يكن هناك ما يُدعى "اشتراكية"، بل على العكس، ما كان قائمًا هو أحد أقسى نماذج الرأسمالية المُدولَنة والمُقننة، والتي عُرفت بـ"الكينزية"، وهي التي شكّلت السياسة الاقتصادية السائدة في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.


انهيار الاتحاد السوفييتي كان بمثابة رسالة قوية حتى للدول التي بقيت واقفة على أقدامها. لكن "الغرب الحر" لم يفهم الرسالة بهذه الطريقة، بل تعامل معها على نحو خاطئ وخطير. فتيار المحافظين الجدد، وقد بلغ أوج تطرفه، أطلق العنان لنفسه، وحرّك البنية الأيديولوجية الغربية، ومعها الموارد المالية والقدرات العسكرية، ومن ثم بدأ يشنّ الهجمات في كل اتجاه مدفوعًا بحلم "العالم أحادي القطب"، ما جرّ العالم إلى كوارثه الحالية.


وإذا ما ألقينا نظرة على سجلهم، نرى أنهم فشلوا في كل مكان تقريبًا. لم تُسمَّ هذه الهزائم بأسمائها الحقيقية، لكنهم هُزموا في كل ساحة، وكان أفغانستان المثال الأوضح. أما في الشرق الأوسط وأفريقيا، فقد خلطوا الأوراق وأفسدوا كل شيء. ويبدو أن الفوضى وحدها باتت التفسير الوحيد الممكن لوصف عالم اليوم.


في خضم هذا المشهد، شكّل صعود الصين، وأداؤها غير المتوقع -بل والمتفوق على ما اعتُقد أنه يُسمح لها به- مؤشرًا على أن العالم لم يعد حكرًا على أحد. غير أن العقل الغربي المهيمن لم يدرك أن الصين قوة ينبغي التوازن معها، وأنه لا بد من التفاهم معها في نهاية المطاف. بل على العكس، ازداد تطرفًا واندفع نحو تبنّي رؤية أيديولوجية أشد تشددًا، وبدأ يتلاقى مع اللاهوت السياسي الصهيوني، مما جعله أكثر طائفية حتى دينيًا.


وفي هذه المرحلة، لم يعد لمفهوم "الغرب"، الذي ارتبط تاريخيًا بالمسيحية، أي معنى مستقل. فمن المعروف أن للغرب جذورًا معادية للسامية عميقة، وهي حقيقة تُبذل الجهود الحثيثة لطمسها. لقد شكّلت معاداة السامية الوزن النوعي الحقيقي للغرب عبر التاريخ. فحتى النازية، التي مثّلت ذروة هذا العداء، لم تكن إلا ثمرة متطرفة لهذا الإرث المتجذّر.


وبعد الحرب العالمية الثانية، اضطر الغرب لخوض عملية "اجتثاث النازية"، ليتطهّر من آثامه ويُعلن توبته. وكان أول "هدية" لهذه التوبة، هو تأسيس دولة إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، دعم الغرب إسرائيل واحتضنها. لكن المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، لا سيما بعد أحداث 7 أكتوبر، وما تلاها من استمرار إسرائيل في ارتكاب مجازرها في غزة، وتدخلاتها الدامية في لبنان وإيران وأخيرًا سوريا، ووقوف الغرب متفرجًا بل ومساندًا لها، كل ذلك يُظهر إلى أي مدى خرجت الأمور عن السيطرة.


وبات يُطرح سؤال جوهري: هل أصبح الغرب لعبةً بيد هذا "الخنفساء الشيطانية" المسماة إسرائيل؟


وأعتقد أن هذه التساؤلات بدأت تتحول داخل الغرب إلى تساؤلات وجودية. إذ بات هناك، إلى جانب التوتر التاريخي العميق بين "الصليب والهلال"، توتر جديد بين "الصليب ونجمة داوود"، وهو ما بدأ يتحرك في العمق.


ولكل ذلك انعكاسات متعددة؛ فعلى سبيل المثال، في أمريكا اللاتينية، حيث تتركز الكتلة السكانية الكاثوليكية الكبرى، نشهد تصاعدًا ملحوظًا في موجة معاداة إسرائيل والصهيونية، تقودها حكومات يسارية شعبوية، مدفوعة بدوافع إنسانية. أما في العالم الأرثوذكسي، الذي يملك بدوره ماضٍ مظلم من معاداة السامية، فلا يبدو أن هناك رد فعل مماثل حتى الآن.


وإذا كانت هذه الموجة الشعبوية اليسارية المناهضة للصهيونية قادمة من العالم الكاثوليكي، فإنها لم تجد صداها حتى الآن لدى الشعبويين اليمينيين الصاعدين في أمريكا وأوروبا. بل على العكس، فإن الأحزاب اليمينية المتطرفة تسير في خط صهيوني واضح. إلا أنني أعتقد أن هذا خطأ في التقدير، وأن ما نراه ليس إلا مرحلة تكتيكية. فاليمين الأوروبي المتطرف، على سبيل المثال، يوجه سهامه في الوقت الراهن نحو المهاجرين المسلمين، وخاصة الأتراك. وبالتالي، فإن إسرائيل، التي تقتل المسلمين، تُعد حليفًا طبيعيًا لهم حاليًا. لكنني لا أظن أن المشاعر المعادية للسامية التي أُسكنت عمدًا في الذاكرة الجماعية لهذه الشعوب، خاصة في فرنسا وألمانيا، قد تلاشت. وأظن أن أول ما سيتذكرونه عند أول اضطراب سيكون هذه المشاعر نفسها.


أما حركة MAGA ذات الجذور البروتستانتية والتي أوصلت ترامب إلى السلطة، فإنها بدورها تحمل تقاليد معادية للسامية في أعماقها. هذه الحركة تعيش الآن خيبة أمل متزايدة من ترامب، الذي استمر في مغازلة جماعة MIGA (اجعلوا إسرائيل عظيمة مجددًا)، ويُنظر إليه على أنه بالغ في تدليل إسرائيل.


ولا أظن أن المعارضة المتزايدة لترامب والحملات المتصاعدة ضده تقتصر على الديمقراطيين. فإن لم يتمكّن من إتمام ولايته، فإن السبب الأهم لذلك سيكون وقوعه في فخّ محاولة الرقص على حبلين في آن واحد. وهو الآن يعيش حالة من الحصار؛ فإن اختار أن يُدير ظهره لـ MIGA، فقد يستعيد قاعدته الشعبية، لكنّه سيكون حينها عُرضة لهجمات شرسة من اللوبي الصهيوني والديمقراطيين. في كل الأحوال، من الواضح أنه لن ينجح في الجمع بين الرقصتين معًا.


وإن كنّا سنشهد أيامًا تدور فيها الرياح فجأة، فلن أستغرب أبدًا...

#الرأسمالية
#النظام العالمي
#MIGA
#اجعلوا إسرائيل عظيمة مجددًا