
تصدرت المجازر وعمليات التهجير والاغتصاب والنهب والسطو التي يشهدها السودان منذ عامين ونصف تقريباً، أجندة العالم فجأة قبل أيام قليلة، وذلك إثر سقوط مدينة الفاشر في أيدي مليشيات قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، المدعومة من الإمارات. في الواقع، سبق لقوات الدعم السريع تحت قيادة حميدتي أن تمردت على القوات الحكومية، واستولت بمليشيات الجنجويد التابعة لها على العاصمة الخرطوم، والجزيرة، وأم درمان، وارتكبت فيها مجازر وجرائم ضد الإنسانية لا تُحصى. ورغم سيطرة حميدتي على العاصمة الخرطوم لمدة عامين، فإنه لم يؤسس إدارة هناك. في الحقيقة، لم يكن لديه لا الثقافة، ولا الكفاءة، ولا النية لتأسيس إدارة. لقد كان أسلوبه وهدفه الوحيد هو نهب كل ما يمكن نهبه من ممتلكات هذه المناطق، وإحراقها وتدميرها، ولم يفعل هو ورجاله شيئاً سوى إحداث الخراب أينما حلوا.
ولذلك، فإن أولئك الذين يسعون إلى التوصل إلى تسوية بين طرفين متساويين في الصراع، انطلاقاً من أن هذه المشكلة التي تدور في السودان تبدو إلى حد ما وكأنها حرب أهلية، مخطئون بشدة.
لقد حاولنا مرارًا من قبل تسليط الضوء على ما يجري في السودان وعلى الخطأ الجسيم في طريقة مقاربة الأحداث هناك. فالأمر لا يتعلق بصراع بين طرفين متساويين في القوة والشرعية، بل هناك دولة قائمة بكل مؤسساتها ومنظماتها المدنية، اكتسبت شرعيتها خلال فترة انتقالية طويلة وتوافقت حولها شرائح واسعة من الشعب، ومنحتها مهلة مشروعة لإدارة المرحلة الانتقالية. في المقابل، هناك شخص شنّ تمردًا عليها مستخدمًا عصابات من المرتزقة والعصابات القبلية جُنِّد معظمهم من خارج السودان (من تشاد وليبيا ودول أفريقية أخرى). أضف إلى ذلك، أن هذا الشخص نفسه كان أحد أبرز المتورطين في جميع جرائم الحرب التي نُسبت إلى نظام عمر البشير خلال أزمة دارفور، والتي ظلت على جدول أعمال المحكمة الجنائية الدولية لفترة طويلة.
أما الجنجويد الذين التفّوا حول حميدتي وقادوا التمرد، فلم يكن لهم هدف سوى النهب والسلب. فهذه القوة التخريبية لا تفعل شيئًا سوى تدمير البلاد، ولا تمتلك أدنى خطة أو مشروع أو رؤية لإعادة إعمارها. وخلال العام الماضي فقط، نهبت كل ما وقعت عليه أيديها في المناطق التي احتلتها مما يمكن بيعه أو الاتجار به، وقتلت المدنيين عشوائيًا، واغتصبت النساء، ودفعت البلاد إلى أتون فوضى شاملة. وفي المقابل، انخفض عدد المقاتلين الذين بدأ بهم حميدتي تمرده بسرعة، حتى وصل إلى نحو عشرين في المئة فقط من قوته الأصلية. وفي الأشهر الأخيرة، تمكنت القوات المسلحة السودانية بهجوم جديد، من تحرير أم درمان (أكثر المدن اكتظاظاً بالسكان التي غزتها سابقاً)، ومنطقة الجزيرة الواقعة بين النيلين، والعاصمة الخرطوم من هؤلاء الغزاة.
في الواقع، كان من الصعب جداً على قوات الدعم السريع أن تتعافى بعد الهزيمة الكبيرة التي مُنيت بها وانسحابها إلى دارفور بعد أن طُردت من العاصمة الخرطوم أيضاً. لقد قُتل العديد من اللصوص الذين جنّدوهم بوعد النهب والغنائم في الاشتباكات، وعاد معظم من تبقى منهم إلى ديارهم بعد الحصول على نصيبهم. لكنّ يدًا واحدةً، وعقلاً مدبّرًا (يمكنكم تخمينه بسهولة)، وضع هدفاً جديداً أمام قوات الدعم السريع: الفاشر.
وبعد حصار دام 500 يوم و300 هجوم منذ مايو/أيار 2024، سقطت المدينة في أيدي قوات حميدتي، التي استخدمت التجويع سلاحاً عبر منع وصول المساعدات الغذائية والطبية. والنتيجة كانت وقوع مجاعات ومجازر وإبادة جماعية بحق أهل الفاشر.
إن القوة التي وضعت الفاشر هدفًا أمام قوات الدعم السريع، والتي دعمتها حتى تمكّنت من السيطرة عليها، والتي رسمت العقلية والاستراتيجية ليست خافية على أحد، إنها الإمارات. الفاشر مدينة ذات أهمية استراتيجية؛ فهي تقع عند حدود ليبيا وتشاد وتُعدّ معبرا قادرا على التحكم بجميع الإمدادات اللوجستية المتدفقة من هناك إلى السودان. كما أنها تضم قاعدة عسكرية ومطاراً. وبالسيطرة على هذه المدينة ستتمكن قوات الدعم السريع، التي كانت تعاني سابقًا من عدم حصولها على وضعٍ مساوٍ للحكومة، من فرض سيطرتها الفعلية على المنطقة. ويكفي هذا القدر من التدخل بالنسبة للإمارات؛ فبمجرد اعترافها الرسمي بها ستنطبق عليها صيغة الانقسام التي جرى تطبيقها في ليبيا، ما يمنحها هامش المناورة التي تريدها.
لا شك أن هذا الأسلوب السياسي الذي تنتهجه الإمارات يمثل مشكلة خطيرة جداً داخل العالم الإسلامي. فليس لها أي تدخل أو مساهمة بخير في أي مكان. وأصبح من المعتاد رؤية بصمات الإمارات حيثما وُجدت اضطراباتٌ أو مشاكل. لماذا تفعل ذلك؟ في الأشهر الماضية كتب السياسي المصري الشهير أيمن نور، رسالة مفتوحة توجه فيها بسؤال مباشر إلى الإمارات حول دورها في السودان، قائلا:
"ماذا تريد الإمارات من سياستها في السودان الشقيق؟ ما هي مصالحها المباشرة أو حتى غير المباشرة في دعم ميليشيات الجنجويد، التي لم تترك جريمة قانونية أو دولية أو دينية أو سياسية أو أخلاقية إلا وارتكبتها؟ ما هو هدفها النهائي من دعم هذه الحرب المجنونة؟"
هل يستحق هذا الهدف، الذي أشك في تحقيقه يومًا، كل هذه الدماء التي أريقت والأرواح المهدرة، وكرامة الناس التي دُنست؟
مهما عظمت المكاسب المحتملة من الذهب والنفوذ هل يمكن لهذه المكاسب أن تعوّض الإمارات خسارة محبة شريحة واسعة منه إن لم يكن معظمه؟
هل ثَمة مُتلقٍ قادر على استيعاب هذا النداء؟ إذا كان الهدف هو أن يثني الإمارات عن الطمع في استنزاف ثروات السودان الذهبية، وعن إحكام الفوضى المستمرة هناك، وتحريض مجرم الحرب وقاطع الطريق، حميدتي، ليقوم بمجازر بحق الشعب السوداني الأعزل، فذلك أملٌ ضائع، لقد استمرَّ دعم الإمارات لمجرم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، حميدتي، بل وتصاعد، مما جعلها شريكةً في كل هذه الجرائم المرتكبة اليوم. والسبب هو أن هناك الآن وعياً وإدراكاً مشتركاً في جميع أنحاء العالم بخصوص الوضع في السودان، وماهية قوات الدعم السريع والجرائم التي ارتكبتها هناك. ولا أحد يرغب في أن يظهر بمظهر المتواطئ مع هؤلاء المجرمين. وفي هذا السياق، يبدو أن سبب عدم اطلاع الناس بشكل كافٍ على ما يحدث في السودان حتى الآن، هو شبكة تحكُّم هائلة بمنصات التواصل الاجتماعي، وقد اتضح أن هذا التعتيم والتضليل يجري بتمويل ودعم سياسي من الإمارات.
عندما تُقارن الفظائع التي تُرتكب في السودان مع ما يجري في غزة، جنباً إلى جنب، تتردد عبارة مؤلمة: "هذا ما يفعله المسلمون بالمسلمين". ولا شك أن عدم اختلاف هذه الجرائم عما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق المسلمين، أمرٌ مؤلم للغاية.
لكن ثَمَّة أمرٌ يُغفَل عنه: وهو أن سياسات الإمارات في المنطقة بأسرها تتوازى مع سياسات إسرائيل، وأن كل هذه السياسات التوسعية والمزعزعة للاستقرار تتطابق مع حسابات إسرائيل الاستراتيجية. ولا ننسَ أن سقوط عمر البشير خلق لإسرائيل مجال نفوذ جديد في السودان لم يكن موجودًا من قبل.
إن أول إجراء فُرض على الحكومة المؤقتة، التي تشكلت بمساهمة من الإمارات هو الانخراط في عملية تطبيع مع إسرائيل مقابل رفع العقوبات. فهل يعني هذا التحرك الأخير السيطرة على منطقة مهمة أخرى تمتد حتى النيل؟ هذا الأمر مرتبط بالطبع بكيفية رد مصر وتركيا والسعودية على هذا التطور.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة