روح العثمانيين والإمبريالية المعرفية

06:1628/11/2025, الجمعة
تحديث: 28/11/2025, الجمعة
يوسف قابلان

إنّ التجربة الحضارية العثمانية هي، بالمعنى الحقيقي، أول وآخر تجربة حضارية ذات طابع عالمي وكوني. أما العالمية التي تدّعيها الحضارة الغربية فليست سوى خطاب مصطنع، فارغ المضمون، قائم على استعمارٍ فعليّ وذهني، يتحرك أفقيًا بدافع التوسع والهيمنة والاحتلال. فهذه العالمية ليست مبنية على مبادئ راسخة أو قيمٍ إنسانية متقدمة، ولم تتجاوز يومًا ما راكمته الإنسانية من مخزونٍ حضاري، بل على العكس، هي عالمية زائفة، ازدرَت التراث الحضاري الإنساني، واستباحت العقول بخطابٍ مهين صُنِع ومُهندَس بعناية بهدف الهيمنة والتحكم.

إنّ التجربة الحضارية العثمانية هي، بالمعنى الحقيقي، أول وآخر تجربة حضارية ذات طابع عالمي وكوني. أما العالمية التي تدّعيها الحضارة الغربية فليست سوى خطاب مصطنع، فارغ المضمون، قائم على استعمارٍ فعليّ وذهني، يتحرك أفقيًا بدافع التوسع والهيمنة والاحتلال. فهذه العالمية ليست مبنية على مبادئ راسخة أو قيمٍ إنسانية متقدمة، ولم تتجاوز يومًا ما راكمته الإنسانية من مخزونٍ حضاري، بل على العكس، هي عالمية زائفة، ازدرَت التراث الحضاري الإنساني، واستباحت العقول بخطابٍ مهين صُنِع ومُهندَس بعناية بهدف الهيمنة والتحكم.

إنّها التجربة الحضارية الأولى والأخيرة التي نظرت إلى الإنسانية جمعاء نظرة تقدير لقيمتها الإنسانية، من دون أن تُلغي موقع الإنسان الوجودي، ومن دون أن تُنتج ثنائية استعلائية مثل “الأنا والآخر” أو “الغرب وبقية العالم”. لقد منحت الجميع الحق في العيش كما هم، وبقائهم على هويتهم، دون ابتلاعٍ أو محوٍ أو فرض هيمنة معرفية.


مستقبل العالم، وقدرته على أن يصبح عالمًا إنسانيًا قابلًا للعيش، مرتبط بقدرته على تجاوز أو تحطيم البنية المعرفية الإمبريالية التي صيغت حول الدولة العثمانية، والقدرة على إعادة اكتشاف الروح العثمانية بصفاء جديد ونقاء أصيل.


لكن قبل تتبّع المعنى الحقيقي للروح العثمانية وماهيّتها، لا بدّ من التوقف قليلًا عند شكل الإمبريالية المعرفية التي تعمّدت تشويه هذه الروح وطَمس حقيقتها.


غزّة أَسقَطَت قناع الإمبريالية المعرفية!


غزّة كانت نقطة فاصلة بكل المقاييس: أصبح هناك ما قبل غزّة وما بعدها؛ تاريخٌ إنساني سيُكتب وفق هذه القسمة.


لقد كشفت غزّة أسرار الهيمنة الغربية، وفضحت الأسس الفلسفية التي تستند إليها. واتّضح أن الشعارات الغربية حول “القيم العالمية” وحقوق الإنسان وسيادة القانون والحريّات والديمقراطية لم تكن سوى أدواتٍ لفرض نمط مرعب من الإمبريالية: الإمبريالية المعرفية.


غزّة أظهرت أن أخطر، وأوسع، وأكثر أشكال الهيمنة الاستعمارية رسوخًا ليست عسكرية أو اقتصادية، بل معرفية: السيطرة على العقول.


ومن بين أخطر نتائج هذه الإمبريالية المعرفية إنتاج صورة مزيفة ومشوهة عن الدولة العثمانية. فالعثمانيون جرى نزعهم من سياق التاريخ، وتمّ وصفهم – ظلمًا وعدوانًا – كقوةٍ استعمارية على شاكلة القوى الغربية.


والأشدّ فظاعةً أنّ هذا الوعي الكاذب رسّخ بين أبناء العثمانيين أنفسهم، بعدما جرى تدمير الوعي التاريخي لديهم، فانتشر لديهم خطاب كراهية عثماني غير مسبوق، وامتهنوا تاريخهم بأيديهم!


قد يبدو الأمر غير قابل للتصديق، لكنه حدث، وما زال يحدث: الإمبريالية المعرفية التي صيغت لتشويه العثمانيين ما زالت فاعلة، وما زال بعض من يُفترض أنهم أبناء الحضارة العثمانية يسارعون إلى تحقيرها بأبشع التعابير!


وكل ذلك يحدث في اللحظة التي يحتاج فيها كلٌّ منّا، ويحتاج فيها العالم، بشدّة إلى الروح العثمانية!


تخيّل… الإنسانية اليوم بأمسّ الحاجة إلى قيم العدل والإنصاف والرحمة التي قامت عليها الروح العثمانية، بينما يتمّ في هذه البلاد، بين أبناء هذا الوطن وهذه الجغرافيا، استخدام اسم “العثمانية” كفزّاعة، والترويج لخرافة “عودة الإمبريالية العثمانية”.


كل من يصف الدولة العثمانية بالإمبريالية ليس إلا تابعًا مطيعًا للإمبريالية نفسها.


فالسلطنة العثمانية كانت، بعكس كلّ الإمبرياليات، تجربة حضارية قاومت بشدة شريان الإمبريالية الحقيقية: الرأسمالية، وقد دفعت ثمن ذلك وجوديًا وفعليًا.


أما حكاية “التخويف من العثمانية” فهي بضاعةٌ رائجة أيضًا لدى بعض النخب الكمالية الضحلة داخل تركيا: الحديث عن العثمانية يُقدَّم بوصفه خطرًا أو كأنه مقدمة لتقسيم البلاد. بينما الحقيقة أنّ العثمانية هي مشروع حضاري جامع، لا مفرّق، وقد عجز العالم عن فهمها، كما عجز عن تجاوزها.


ولأنها لم تُفهَم حقّ الفهم، فقد ظُنّ أنّ تجاوزها ممكن… لكنه لم يحصل ولن يحصل.


في هذا المقال، سأناقش كيف جرى تشويه فهم العثمانية، وكيف تمّ التلاعب بصورتها وبطريقة تصوّرها، وكيف ينبغي أن نفهمها كأول وآخر رؤية حضارية عالمية حقيقية تُوسّع آفاقنا ومداركنا وتفتح أمامنا أبواب المستقبل.


من يرى العثمانية قوةً غازية هو عقلٌ مُحتَل!


إنّ التصريحات التي صدرت بمناسبة ذكرى تحرير إزمير من احتلال اليونانيين الخاضعين للبريطانيين مثيرة للقلق: هل حُرّرت إزمير من العثمانيين؟! مَن هو المحتل في هذه البلاد؟ ولِمَن تُوجَّه الشتائم؟ إنّ الكراهية العثمانية التي يُبديها البعض في هذا البلد مُقزّزة، ولا تعبّر إلا عن خواء الروح.


والمفارقة أنّ كبار المؤرخين الأجانب يرون في الدولة العثمانية نموذجًا للعدل والإنصاف، بينما يتم تصويرها هنا ـــ ويا للأسف ـــ كقوة ظالمة استعمارية!


أيّ منطق هذا؟ أهو إلّا نوعٌ من “الجرادة المُسلسلة التي تعشق جلادها”؟!


نحن في لحظة كَسر تاريخي… ولحظات الكسر هي لحظات إعادة التأسيس.


العالم اليوم مُقبل على تشكّلاتٍ جديدة، وعلى وجه الخصوص على إعادة اكتشاف “النموذج العثماني” والروح العثمانية.


لن يطول الوقت… خلال نصف قرن فقط سنواجه عالمًا مختلفًا تمامًا.


وإن لم نقترف أخطاءً جسيمة، واستعددنا جيّدًا للمستقبل، فسنكون نحن من يعيد صنع التاريخ.

#روح العثمانيين والإمبريالية المعرفية
#العثمانية
#الإمبرالية
#غزة
#تركيا
#الروح العثمانية