
أثارت زيارة البابا إلى تركيا الجدل المعتاد على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا ليس بالأمر المُفاجئ، ففي تركيا هناك دائماً بيئة خصبة للمشاحنات العابرة والعقيمة. فلكل شخص هواجس جاهزة ومعتقدات ونظريات مؤامرة حول القضايا المصيرية. حتى الأسئلة مثل: "سيدي الصحفي، ما رأيك في عقد البابا اجتماعاً في إزنيك؟" تُعتبر جزءاً من هذا النسيج.
على سبيل المثال، يتم ربط مشاركتي في أسطول "الصمود" بعدم اعتراضي على إقامة البابا قداساً في بلدنا... من الصعب فهم كيف يتم الجمع بين هذين الموضوعين. ولا تقل: "ما علاقة ذلك بصمود؟"؛ في الحقيقة، هناك علاقة كبيرة. فمجيء البابا إلى تركيا وتوجيه رسالة وحدة إلى العالم المسيحي يلامس عمقاً أبعد مما نتصوره فيما يتعلق بـ "مشكلة إسرائيل التي لا تستطيع البشرية الخروج منها".
حقيقة عميقة.. الأمر ليس صدفة على الإطلاق
كما أن مستوى النقاشات معلوم؛ فالجميع يشارك في الميدان بـ "ثقة مفرطة في النفس". وقد حاولت شريحة معينة صياغة جمل مؤامرة مثل: "تركيا المسلمة تُسحق أمام الغرب المسيحي". في حين أن هذه الزيارة تستحق أن تُقرأ على أنها محاولة "لاستقطاب سلطة جديدة" تتجاوز بكثير النقاشات السياسية الداخلية.
تركيا في هذا المشهد ليست طرفاً سلبياً كما يظن المنتقدون، بل هي في المركز تماماً. فهي أقوى دولة سياسياً في العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه، هي مالكة إسطنبول، المدينة الوحيدة التي تلتقي فيها جميع شرايين المسيحية. هذه المدينة تحمل العبء التاريخي للمسيحية المحصورة بين روما والقدس، وتحتضن قلب التقليد الأرثوذكسي. إن توجيه البابا الجديد وجهه إلى إسطنبول أولاً ليس مصادفة على الإطلاق.
منذ فترة وأنا أقول لكثير من الأشخاص من حولي إنه يجب على المسيحية أن تنهض مجددا.خاصة وأنني كنت أرى أن العلاقات التركية الإيطالية المتقدمة في السنوات الأخيرة يمكن أن تُقرأ في خلفيتها كـ "تحالف إلازمي بين روما الغربية وروما الشرقية (البيزنطية)". وبالفعل هذا ما حدث.
المسيحية تحت الحصار الصهيوني
تشير الملاحظات والبحوث والقراءات، ولا سيما قدّاسات يوم الأحد، إلى أن المسيحية، وخصوصاً العالم الكاثوليكي، تعيش منذ زمن طويل حالة فقدان خطير للسلطة. فقد أصبحت المجتمعات الأوروبية علمانية بسرعة، وفقد الفاتيكان نفوذه حتى داخل منطقته، بينما وصل تحالف الإنجيليّة والصهيونية في الولايات المتحدة إلى قوة تهيمن على الحياة الدينية. وفي النهاية، فإن الهيمنة التي اكتسبها اليهودية والصهيونية في السياسة العالمية جعلت العالم المسيحي في وضعٍ من الضعف لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
ولنتذكر تحذيرات المفكر الفرنسي رينيه جيرارد، فوفقاً له، عندما تضعف مؤسسات الدين والكنيسة والأسرة والأخلاق، ينهار نظام الكبح الذي يحمي المجتمع من العنف.وحيث تتآكل السلطة، تتعاظم الفوضى، وينتشر الصراع، ويبدأ البحث عن قوة لإعادة تأسيس النظام.
بالتأكيد ليس هدفي الدفاع عن الغرب المسيحي. ولكن هذا "الانهيار الديني" له عواقب وخيمة على البشرية جمعاء، بمن فيهم المسلمون.
لذلك، لم تكن زيارة البابا مجرد لقاء دبلوماسي، بل كانت المحطة الأولى في رحلة البحث عن سبيلٍ لنهوض الكاثوليكية مجدداً.
من تخيفهم هذه الوحدة؟
هناك أمر يجب ألا نغفله أبداً في هذه النقطة: إن اقتراب العالم المسيحي مجدداً من فكرة الوحدة يثير انزعاج بعض الأوساط بشكل كبير.
أولا وقبل كل شيء، تثير فكرة الوحدة هذه قلق المراكز الصهيونية أكثر من أي طرف آخر. لأن إضعاف المسيحية كان جزءاً من بنية القوة التي أقامتها إسرائيل في الغرب منذ عام 1948. فالعالم المسيحي المتشرذم لا يستطيع تطوير موقف موحد حول أي قضية، بدءاً من وضع القدس وصولاً إلى القضية الفلسطينية، مما يمنح الصهيونية مجالاً واسعاً للمناورة. وبالتالي فإن إجابة سؤال "من هو الأكثر انزعاجاً من إعادة إرساء التواصل الوثيق بين الفاتيكان وإسطنبول؟" تظهر تلقائياً.
ثانياً: لا يُعجب هذا التطور الجماعات الإنجيلية، التي تمثل اليوم أقوى حركة سياسية دينية وأكثرها تنظيماً في الولايات المتحدة. لقد حدد المحور الإنجيلي الصهيوني السياسة الأمريكية في العقود الثلاثة الماضية. وأي عملية تعزز الكاثوليك تضعف بشكل مباشر الهيمنة الإنجيلية.
ترامب، والذكاء الاصطناعي، والبابا الأمريكي
هنا سأفتح قوسين: إن عملية اختيار البابا ليست بمعزل عن صراع القوى هذا في أمريكا. فقد تم اختيار البابا ليو الرابع عشر ليكون شخصية "نشطة سياسياً" لاستعادة السلطة التي فقدها العالم الكاثوليكي منذ فترة طويلة. كما شكّل صعود ترامب نقطة تحول مهمة في خلفية هذا الاختيار.
تذكروا: في الأول من مايو 2025، وجه ترامب رسالة واضحة لقاعدته الإنجيلية بقوله "سنعيد الدين إلى البلاد". وبعد ذلك بأيام قليلة، ، نُشرت صورة لترامب منشأة بالذكاء وهو يرتدي ملابس البابا، عبر حساب البيت الأبيض على منصة (X). وبعد ذلك مباشرةً، انتُخب الكاردينال روبرت فرانسيس بريفوست كأول بابا أمريكي للكاثوليك.
كانت هذه التطورات المتمحورة حول الدين والتي حدثت خلال الأيام القليلة الماضية تجلّيًا لصراع السلطة الكبير الدائر في أمريكا. وكان انتخاب بابا أمريكي نتيجةً لبحث العالم الكاثوليكي عن استراتيجية سياسية جديدة لمواجهة الهيمنة الإنجيلية. وتُعدّ زيارة البابا إلى تركيا، ورسالة الوحدة التي حملتها، استكمالاً لهذه الخطوة.
ثالثاً: تقف النخب العلمانية العالمية على مسافة من فكرة تعافي المسيحية. فالوحدة تعني "خطاباً أخلاقياً مشتركاً". ومن شأن تعزيز هذا الخطاب أن يُعقّد المشاريع الأيديولوجية للمؤسسات الدولية، والإملاءات الثقافية للشركات الكبرى، وخاصة سياسات تهميش وإلغاء النوع الاجتماعي التي تستهدف الأسرة. ولا ترغب الهياكل العلمانية الغربية في نظام يزيد فيه تأثير الأديان على المجتمعات.
على أعتاب مواجهة جديدة
ويشير هذا المشهد برمته إلى أن زيارة البابا إلى تركيا قد فتحت الباب أمام نقاش أكبر بكثير. فهذه الزيارة لا تهم تركيا وحدها، بل تُشير إلى حقبة جديدة ستؤثر بشكل مباشر على مستقبل المسيحية، والسلطة السياسية للصهيونية، وقوة الإنجيليين الأمريكيين، والنظام الثقافي العالمي.
في مثل هذه المعادلة، تُعد تركيا الدولة الأقوى سياسيًا في العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه، هي مالكة إسطنبول التي تربط عروق المسيحية ببعضها. لذلك، فإن زيارة البابا ليست صورة "لتعرضنا للسحق" كما يظن البعض، بل تؤكد أن تركيا حتل موقعًا مركزيًا في الصراعات الجديدة على السلطة.
والسؤال الرئيسي الذي يجب طرحه الآن هو: هل سترضى المسيحية بالبقاء كدين غير مؤثر سياسياً في ظل الصهيونية، أم أنها على أعتاب مرحلة جديدة من المواجهة والنهضة؟
مهما كانت الآراء، فإن زيارة البابا لتركيا تُمثل هذه العتبة تحديدًا.
المسلمون وموقعهم في هذه المعادلة
فلماذا يجب أن يهمنا كمسلمين تقوية المسيحية؟
نحن المسلمين، لن نعتمد على "نهضة" المسيحية. ولكن الحكمة الاستراتيجية والمصالح الإنسانية تقتضي ما يلي: نواجه جبهة عالمية من الدمار تستهدف البشرية والأسرة والفطرة، ومدعومة بقوة إنجيلية صهيونية. هذه الجبهة تقتل الأطفال في غزة بينما تُسكت المسيحيين في الغرب باسم "الكتاب المقدس". وإسرائيل تنشر الدعاية حتى في الكنائس الأمريكية. فإذا تمكنت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنيسة الشرقية من كسر هذا الضغط الصهيوني والقول: "توقفوا، هذا ليس ديننا؛ لن نكون متواطئين في جريمة القتل"، حينها ستنهار دروع إسرائيل الواقية في الغرب.
أضف إلى ذلك، أن تشكيل "جبهة إنسانية" مشتركة بين الأديان السماوية ضد سياسات تهميش وإلغاء النوع الاجتماعي وإضعاف الأسرة التي تفرضها القوى العالمية، لم يعد خياراً بل ضرورة. لنعترف: إن الموقف الواضح الذي اتخذه المسيحيون الأرثوذكس ضد إملاءات مجتمع الميم شجعنا أيضاً.
وبالتالي، يجب قراءة خطوة البابا في إسطنبول أيضاً ضمن سياق هذه "التحالفات القسرية".
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة