خطوط الصدع في الشرق الأوسط

08:0924/07/2025, четверг
تحديث: 24/07/2025, четверг
طه كلينتش

شهدت مدينة السويداء، ذات الغالبية الدرزية جنوب العاصمة دمشق، اشتباكات عنيفة الأسبوع الماضي، كشفت مجددًا أن بعض خطوط الصدع في الشرق الأوسط نشطة وحيوية على الدوام. هذه التطورات أعادت إلى أذهان من يقرأون تاريخ سوريا القريب عن كثب، تلك الأيام المشؤومة من شهر تموز عام 1860. ففي أواخر شهر أيار من ذلك العام، اندلعت مواجهات دموية بين الدروز والمسيحيين على جبل لبنان وسهل البقاع، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص، معظمهم من المسيحيين. وقد كانت هذه الأحداث نتاجًا لتراكمات من التوترات السياسية والاقتصادية

شهدت مدينة السويداء، ذات الغالبية الدرزية جنوب العاصمة دمشق، اشتباكات عنيفة الأسبوع الماضي، كشفت مجددًا أن بعض خطوط الصدع في الشرق الأوسط نشطة وحيوية على الدوام. هذه التطورات أعادت إلى أذهان من يقرأون تاريخ سوريا القريب عن كثب، تلك الأيام المشؤومة من شهر تموز عام 1860.

ففي أواخر شهر أيار من ذلك العام، اندلعت مواجهات دموية بين الدروز والمسيحيين على جبل لبنان وسهل البقاع، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص، معظمهم من المسيحيين. وقد كانت هذه الأحداث نتاجًا لتراكمات من التوترات السياسية والاقتصادية التي امتدت لعقود، كما حملت مؤشرات مبكرة على الأزمات التي ستعصف بلبنان لاحقًا.

وبينما بدأت الأوضاع في لبنان تهدأ مع نهاية شهر حزيران، انتقلت شرارة الأزمة هذه المرة إلى سوريا. فالضربة القاسية التي تلقاها مسيحيو لبنان على يد الدروز شجعت بعض الفئات في دمشق، التي كانت تضمر العداء للمسيحيين الأثرياء والمتعلمين والمرموقين منهم لأسباب متعددة، على التحرك. وسرعان ما شهدت أحياء المسيحيين داخل أسوار دمشق، بين 8 و17 تموز، مذابح وحشية. فقد شنّت مجموعات مهاجمة، جُمعت معظمها من أرياف دمشق، وضمت بدوًا وعربًا وأكرادًا ودروزًا ويزيديين، ومن بينهم مرتزقة أيضا، هجمات أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 2500 مسيحي. وقد ادعى بعض المسيحيين الإسلام ظاهرياً، حفاظاً على أرواحهم وممتلكاتهم.

وفي تلك الأثناء، بذل الأمير عبد القادر، قائد المقاومة الجزائرية الأسطوري الذي كان يقيم في دمشق بعد نفيه من قبل الفرنسيين، جهودًا عظيمة لحماية المدنيين المسيحيين من الهجمات. كما سارع تجّار المسلمين وأثرياؤهم في حيّ "الميدان" بدمشق إلى إيواء أعداد كبيرة من المسيحيين تحت كنفهم.

وكانت الحصيلة مفزعة: فقد أُحرق 1500 منزل بالكامل، في الأحياء المسيحية بدمشق، ونُهب 270 مسكنًا بكل ما فيها، وأُضرمت النيران في 200 دكان وورشة عمل. ووفقًا لمقاييس اليوم، فإن الخسائر المادية التي لحقت بالمدينة تقدّر بحوالي 15 مليون دولار.

وتحولت هذه الأحداث التي عجزت الإدارة العثمانية المحلية عن التدخل فيها وإخمادها في الوقت المناسب، إلى ذريعة للقوى الأوروبية للتدخل في بلاد الشام. وعلى وجه الخصوص، اندفعت فرنسا التي كانت تترصّد الفرصة وانقضّت كالنسر على لبنان وسوريا، ونشرت ستة آلاف جندي في المنطقة تحت ذريعة "حماية الأقليات المسيحية"، بينما لجأ البريطانيون إلى وسيلة أكثر "تحضرًا"، حيث أنشؤوا "لجنة تحقيق". وهي طريقة دأبت بريطانيا على استخدامها في مثل هذه الحالات، لتهديد خصومها بأسلوب غير مباشر. وسارعت الحكومة العثمانية بإرسال فؤاد باشا كجيجي زاده إلى دمشق لمنع الدبلوماسيين الفرنسيين والبريطانيين من السيطرة على المشهد.

وإذا نظرنا إلى أزمة عام 1860 ضمن إطار أوسع، فإنها تشكّل أحد اللبنات الأساسية التي مهّدت لاحقًا لاتفاقية "سايكس بيكو" سيئة الصيت، والتي قسمت إرث الدولة العثمانية خلال تفككها. كما أن الإدارة الانتدابية الفرنسية التي فرضت على لبنان وسوريا عام 1920، لم تكن إلا امتدادًا لتجربة ميدانية سابقة حين دخلت فرنسا المنطقة بحجة "حماية المسيحيين"، قبل ستة عقود من ذلك التاريخ.

وإذا أردنا التحدث عن أبرز الأمثلة على خطورة تحريض الأقليات عبر القوى الأجنبية، فلا شك أن الدولة العثمانية واجهت النموذج الأشد قسوة إبان الحرب العالمية الأولى، حين شجّع الروس الأرمن على شنّ هجمات دموية ضد المسلمين في الأناضول، أسفرت عن مجازر وتطهير عرقي انتهى بتهجير الأرمن عام 1915. إن استحضار وقائع عام 1915 له أهمية كبرى لفهم الأهداف الحقيقية والآليات الكامنة وراء استخدام إسرائيل للدروز في أحداث السويداء الأخيرة. ومن أراد أن يتصوّر بشاعة الجرائم التي ارتكبها الأرمن بحق المسلمين المدنيين في الأناضول، فليتأمل في ما يفعله اليوم الدروز المدعومون من إسرائيل في السويداء، وفي حجم حقدهم الذي يصبّونه على المسلمين هناك.

لقد بدأت بالحديث عن خطوط الصدع في الشرق الأوسط، وسأنهي بالإشارة إليها مجددًا:

إننا نمرّ بأوقات تُحتّم علينا إعادة قراءة التاريخ بعينٍ يقظة وتأمّل عميق. علينا أن نكون على وعيٍ تامّ بالثغرات التي تسللوا منها إلينا في الماضي، ونقاط الضعف التي استغلوها. لن تتمكن تركيا ولا دول المنطقة من تحقيق قوّة حقيقية إلا إذا امتلكت هذا القدر من البصيرة النافذة. وإلا فإن الأيادي العابثة ستظلّ تحرك خطوط الصدع الكامنة، وسيظل مصير المنطقة رهينةً بأيدي حفنة من الأقليات المتطرفة.


#خطوط الصدع
#الشرق الأوسط
#السويداء
#الدروز
#المسيحيون
#دمشق
#لبنان
#الأقليات
#سوريا