الرموز الثابتة

08:5226/11/2025, الأربعاء
تحديث: 26/11/2025, الأربعاء
طه كلينتش

في يوم الجمعة الماضي (21 نوفمبر 2025)، ومع انطلاق مباراة فنربهتشة بيكو وبارتيزان التي أقيمت في العاصمة الصربية بلغراد، قامت مجموعة "غروباري" الصربية المتطرفة والفاشية والمستفزة برفع لافتة ضخمة أثارت الانتباه وردود أفعال غاضبة. كانت اللافتة تصوّر استشهاد السلطان العثماني مراد الأول طعناً على يد القومي الصربي ميلوش أوبيليتش بعد حرب كوسوفو الأولى (1389). ولم يغفل الصرب عن ترديد أغاني عنصرية في المدرجات تستهدف الأتراك. هذه المشاهد أثارت ردود فعل مليئة بالدهشة والغضب لدى قطاع واسع في تركيا، لكنها كانت

في يوم الجمعة الماضي (21 نوفمبر 2025)، ومع انطلاق مباراة فنربهتشة بيكو وبارتيزان التي أقيمت في العاصمة الصربية بلغراد، قامت مجموعة "غروباري" الصربية المتطرفة والفاشية والمستفزة برفع لافتة ضخمة أثارت الانتباه وردود أفعال غاضبة. كانت اللافتة تصوّر استشهاد السلطان العثماني مراد الأول طعناً على يد القومي الصربي ميلوش أوبيليتش بعد حرب كوسوفو الأولى (1389). ولم يغفل الصرب عن ترديد أغاني عنصرية في المدرجات تستهدف الأتراك.

هذه المشاهد أثارت ردود فعل مليئة بالدهشة والغضب لدى قطاع واسع في تركيا، لكنها كانت مألوفة جداً بالنسبة لأولئك القادرين على النظر إلى التاريخ والجغرافيا من خلال خطوط الصدع التي تغذيها الرموز. فقد أظهر الصرب الموقف المتوقع منهم، وأخرجوا ذلك الحقد الذي لم يستطيعوا التخلص منه قط. وفي النهاية، نتحدث عن عقلية تقوم بـ شواء الخنازير على طول الطريق لمضايقة المشاركين في مسيرة السلام السنوية التي تُنظَّم في شهر يوليو من كل عام لإحياء ذكرى المسلمين الأبرياء الذين ذُبحوا في سربرنيتسا صيف عام 1995.

وفي مناسبة أخرى قبل فترة وجيزة، أبدى بعض اليونانيين استغرابهم حين ذكرنا بعض الحقائق التاريخية، متسائلين: "لقد أصبحنا في عام 2025، ألا زلتم تستخدمون الخطاب الحماسي؟". ويقوم هذا التصور على فرضية أن مرور السنين والقرون سيؤدي إلى نضوج الأمم، وتلاشي التوترات والعداوات الماضية، وبالتالي سيُرسى مبدأ الصداقة والأخوة. لكن الحقيقة تقول إن الغرائز المنغرسة في جينات الدول والأمم لا تعمل بهذه الطريقة. فباستثناء الحالات النادرة والمحلية، تبقى خطوط الصدع دائماً في حالة تأهب، وعلى وشك الانفجار. فحتى مباراة كرة سلة يمكن أن يُنظر إليها على أنها ساحة معركة، كما حدث في "غروبارِي". إن الرموز المتجذرة في الأعماق هي التي تشكّل السلوكيات.

وفي مقالاتي أتناول هذا الموضوع من حين لآخر، وقد حان الوقت للتأكيد عليه مجدداً: إذا نظرتم عن كثب إلى الصرب في البلقان، واليهود الصهاينة في الشرق الأوسط، والهنود في آسيا، فستجدون أن ذاكرتهم كلها منسوجة من المرجعيات التاريخية. هذه الجبهات الثلاث، التي تستند إلى أديان وتجارب وخلفيات ثقافية وجغرافية مختلفة، تتلاقى على أرضية مشتركة تتمثل في العداء للإسلام والمسلمين. عندما تجلس جنباً إلى جنب مع صربي، أو صهيوني، أو هندوسي، ستلاحظ أنهم ينطقون بجمل متشابهة، ويشعرون بنفس الفرح والحزن حيال قضايا المسلمين.

بالإضافة إلى ما ذُكر، فإن ذكر كلمة "تركي" يثير في الأذهان اليوم ماضيا عريقا، لا سيما في الأراضي المسيحية التي سيطرت عليها الدولة العثمانية في الماضي. قد تكون كوسوفو، وفارنا، ونيكوبوليس بالنسبة لنا مجرد عناوين "مملة" في دروس التاريخ اليوم، لكن شبح العثمانيين لا يزال يطارد العقل الباطن الأوروبي بكامل حيويته. والتاريخ، مهما هربتم منه، فإنه يطاردكم ويبحث عنكم ويجدكم. ثم فجأة، يظهر أمامكم في مباراة كرة سلة مثلاً.

إنها حقيقة معروفة، ولكن لا ضير في تكرارها: في المعجم الأوروبي، يقابل تعريف “الخصم المسلم الذي يجب الخوف منه” كلمةُ “تركي”. فعندما يسمع الأوروبي كلمة “تركي”، يفهم منها “المسلم”، ويخفي كل مخاوفه وقلقه داخل هذه الكلمة. ولهذا السبب بالذات، هناك الكثير من الأتراك الذين استقروا في أوروبا، وأحرزوا فيها مناصب ومكانة، وتبنّوا نمط حياة ورؤية عالمية أوروبية، لكنهم وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة مفاجآت غير سارة، واصطدموا بواقع مخيف مفاده أن محاوريهم ما زالوا يرونهم “أبناء العثمانيين، وأحفاد الغزاة القدامى، والمسلمين الأتراك”. وحتى لو غيّر اسمه، أو غيّر بلده، أو حتى غيّر دينه، فهذه هي نظرة الأوروبي إلى “التركي”، وهي ثابتة لا تتغير.

وبينما الحقيقة كذلك، فمن المؤسف أن نرى بعض أبناء شعبناغارقين في جهلٍ فادح بتاريخهم وجغرافيتهم وخطوط الصدع التي صنعت منطقتهم، منساقين وراء شعور بالدونية يدفعهم لمحاولة تقليد أسيادهم الأوروبيين في جميع قيمهم ومعتقداتهم، إنه أشبه بمحاولة مشاهدة عرض سيئ مفروضٍ عليك: سيناريو باهت، وتمثيل رديء، ومسرح رث، وأضواء خافتة.

وبينما يدعونا التاريخ والجغرافيا إلى تذكر مسؤولياتنا - ليس فقط تجاه محيطنا القريب، بل تجاه الإنسانية جمعاء - فإن هذه الفجوة الهائلة في ذاكرتنا وهذا اللاوعي الذي ينعكس حتى على تحركاتنا، لا يبشران بخير على الإطلاق.


#الأتراك
#الدولة العثمانية
#المسلمون
#الصرب
#الغرب
#أوروبا