إحراق أطفال فلسطين.. الهولوكوست والقربان

07:275/06/2025, الخميس
ياسين اكتاي

يُعد موسم الحج وعيد الأضحى حدثًا عظيمًا تتجسد فيه بطريقة ما المواجهة أو اللقاء بين أتباع الأديان الإبراهيمية. فما نشهده اليوم من نزاعات وصراعات وحروب بين هذه الأمم هو انعكاس لأحداث تعود جذورها إلى ما قبل 3500 عام مضت، وتستمر حتى يومنا هذا. والمواقف التي اتُخذت خلال تلك الأحداث، والانقسامات التي أعقبتها تكتب اليوم لكل طرف أدوارًا تتناسب مع شخصياته وطبائعه التي أصبحت راسخة ومتأصلة. فما تمارسه "إسرائيل" اليوم بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية من جرائم وانتهاكات، وما تقدّمه الولايات المتحدة من دعم

يُعد موسم الحج وعيد الأضحى حدثًا عظيمًا تتجسد فيه بطريقة ما المواجهة أو اللقاء بين أتباع الأديان الإبراهيمية. فما نشهده اليوم من نزاعات وصراعات وحروب بين هذه الأمم هو انعكاس لأحداث تعود جذورها إلى ما قبل 3500 عام مضت، وتستمر حتى يومنا هذا. والمواقف التي اتُخذت خلال تلك الأحداث، والانقسامات التي أعقبتها تكتب اليوم لكل طرف أدوارًا تتناسب مع شخصياته وطبائعه التي أصبحت راسخة ومتأصلة.

فما تمارسه "إسرائيل" اليوم بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية من جرائم وانتهاكات، وما تقدّمه الولايات المتحدة من دعم غير محدود لهذا الإجرام، وما يقابل ذلك من صمت أوروبي داعم ومتواطئ، ومن دعم خفي وسكوت مخزٍ للقادة المنافقين في العالم الإسلامي، كل هذه المواقف تعكس تطابقًا تاما مع الشخصيات الموصوفة في الكتاب. فالكتاب يعيد القارئ إلى عمق التاريخ ثم ما يلبث أن يُسقط التاريخ ذاته على الحاضر، فيضعه في قلب الأحداث الجارية اليوم.

إن مشاهد قتل الأطفال والنساء والمدنيين الفلسطينيين حرقًا على يد إسرائيل، وتحوّل هذه الجرائم إلى مدعاة للفخر لا يتطلّب حتى تبريرًا أمام شعبها، لا يمكن تفسيرها فحسب على ضوء التسهيلات التقنية التي أتاحتها الحداثة في تسهيل عمليات القتل والموت وجعلها مسألة تتعلق بالإمكانات التقنية. فكما هو معروف، حاول زيجمونت باومان في كتابه الشهير عن المحرقة (الهولوكوست) اختزال المسألة ضمن إطار الحداثة، ربما في محاولة منه لبيان أن الجذور العميقة لتلك الفاجعة لا تقتصر على الاشتراكية القومية فحسب، بل تمتد إلى الفكر التنويري ذاته. فالمحرقة، التي تمثلت في قتل اليهود حرقًا باسم عنصرية حديثة، اعتُبرت جريمة يمكن أن ينحرف نحوها الفاعل الحديث بسهولة ودون عناء. وبحسب باومان، كان ينظر إلى الهولوكوست على أنها انفجار للكراهية غير العقلانية أو الوحشية، إلا أنها كانت ممكنة بفضل اجتماع عناصر حداثية مثل العقلانية الحديثة والبيروقراطية والفكر العلمي والتقدم التكنولوجي.

فالآليات البيروقراطية الحديثة تحول دون شعور الأفراد بالمسؤولية الأخلاقية عن أفعالهم، إذ يتحوّل البشر داخل سلسلة الأوامر إلى "موظفين يؤدّون واجباتهم" فحسب. وهذا ما أتاح للمسؤولين النازيين المشاركة في الإبادة الجماعية نفسيًا وأخلاقيًا، وعلى غرار مفهوم حنة آرنت عن "تفاهة الشر"، سعى باومان إلى توضيح أن هذا العنف الوحشي والإبادة الجماعية خرجا من صميم الحداثة نفسها، وذلك من خلال تسليط الضوء على الطبيعة القاسية للبيروقراطية الحديثة.

إذا كانت المحرقة التي تعرّض لها اليهود نتيجةً للحداثة، فهل الإبادة الجماعية التي يمارسها اليهود اليوم، والتي وصلت إلى حدّ "حرق البشر" و"حرق الأطفال"، هي أيضًا نتيجة للحداثة؟

أظهر استطلاع رأي أُجري مؤخراً أن 82% من الإسرائيليين اليهود يؤيدون طرد الفلسطينيين من غزة. وما يلفت الانتباه أن الانتقادات الموجّهة اليوم إلى نتنياهو لا تتعلق في معظمها بما ارتكبه من مجازر في غزة، بل تنبع من إخفاقه في تنفيذ وعوده بإبادة حقيقية تقضي على حركة حماس وربما تقتلع الفلسطينيين تمامًا من غزة والضفة الغربية. وهنا لا يمكن تحميل الحداثة وزر ما يجري، فالذنب يتعلق باعتقاد جماعة ما أنها تملك تفويضًا لاهوتيًا يجيز لها ممارسة كل أشكال العنف، والمجازر والسرقة والتهجير والحرق ضد شعوب أخرى، وهذا لا علاقة له بالحداثة. ولا أقصد هنا الدفاع عن الحداثة في مقابل أطروحة باومان، فالنقد الذي قدّمه كل من باومان وآرنت بشأن "تفاهة الشر" في ظل اللامبالاة في تأدية المهام البيروقراطية هي انتقادات صائبة وفي محلها. غير أن الشرّ الذي نواجهه اليوم أسوأ بكثير من الشر العادي، فهو يتعلق بكراهية، وتعصب ديني.

وفي سياق رحلتنا مع شعيرة الأضحى ربما يتعلق الأمر بتحريف مفهوم القربان لدى اليهود والمسيحيين، إذ بدلًا من أن يكون وسيلة للتقرب من الله ومن جميع عباده، أصبح أداة للتفرقة ومصدرا للكراهية. تمامًا كما تحوّل "عيد الفصح"، الذي من المفترض أن يرمز لأعمق وأسمى معاني التحرر، إلى مناسبة لاستعراض الكراهية والعداء ضد الفلسطينيين. إنها غطرسة فظيعة تنبع من موقف غيور حول ما إذا كان المضحى به إسحاق أم إسماعيل، وتعتبر ابتسامة إسماعيل وقاحة يجب دفع ثمنها باهظًا.

لقد صُوّر إسماعيل وكأنّه استحق العقوبة حرقًا فقط لأنه أظهر الضحك الذي يُفترض أنه من حق إسحاق، وهكذا غدا تقديمه قربانًا عقابًا له. وأما بالنسبة لبني إسرائيل فقد كان وسيلة لمنع أي منافسة رمزية على المكانة الإلهية حتى لا تمنح لغيرهم. وبهذا أصبح التقرّب إلى الله يتم عبر وسيلة منحرفة، تتمثل في القتل والقضاء على "المرشحين البدلاء". وما نشهده اليوم في غزة من المجازر هي تجسيدٌ لذلك الإرث العميق من العداء المستمر تجاه بني إسماعيل منذ ذلك اليوم. إنها ذبح مجتمع بأكمله.

كلمة "هولوكوست" ذات أصل يوناني، تتكون من كلمتين: هولوس (holos) وتعني "كاملًا"، وكوستوس (kaustos) وتعني "محروقًا"، أي "القربان المحروق بالكامل". وفي التوراة يُشار إلى القربان كطقس يتم فيه ذبح الذبيحة ثم حرقها بالكامل (هولوكوست)، ويُعتقد في الثقافة الشعبية اليهودية أن تصاعد دخان القربان بسرعة يُعدّ علامة على وصوله إلى الله. وجاء في سفر التكوين (22:2): "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقةً على أحد الجبال الذي أقول لك"

ومن هنا تبدأ عقيدة مشوهة عن الله، مفرطة في التشبيه والتجسيم. ففكرة وصول دخان الذبيحة إلى الله ليست إلا تحريفاً لمفهوم الأضحية ذاته. هذا التصور ليس نتاجاً للإيمان اليهودي الأصيل، بل استلهام من المفهوم اليوناني القديم وتأثر به. فقد كان هذا المصطلح في العصور القديمة يشير إلى القرابين التي تُقدم إلى الآلهة عن طريق إحراقها بالكامل. ولذا يرى البعض أن تسمية المحرقة اليهودية بـ"الهولوكوست" أمر مزعج، لأنها توحي بأن الضحايا اليهود الذين قُتلوا في المعسكرات النازية خلال المحرقة قدّموا كقرابين لله، وهذا أمرٌ مُحبط للغاية مِن منظور مَن يرى القربان عقابًا، فضلًا عن أن المستحقين لهذه التضحية (بحسب هذا التصوّر المنحرف) يجب ألا يكونوا "أحباء الله" من اليهود، بل أعداءهم.

ولكن الأضحية ليست عقابًا، بل نهجا ووسيلة للتقرب لله وللناس، وخصوصًا للفقراء. إنّها ليست امتناعا أو إسرافا، بل عطاء ومشاركة، ووسيلة للدخول إلى قلوب الآخرين. وليست تعبيرًا عن الكراهية، بل عن الصداقة والأخوة، ووسيلةً لتجسيد الوعي بالوحدة الأصيلة بين البشر عبر الطقوس، يتموضع هذا المعنى العميق في الشخصية من خلال طقس تعبّدي رمزي. إنها مناسبة للتأمل في أن الله لا يحتاج إلى لحوم القرابين ولا دمائها. فالروح ملكه، والدم ملكه، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد.

فالله سبحانه يأخذ ممن يشاء، ويعطي من يشاء، في الوقت الذي يشاء. ومن خلال هذه الشعيرة يريد منا أن نصل إلى إدراك هذه الحقيقة، وأن نوزّع لحوم الأضاحي على الفقراء كجزء من مقاصد الشعيرة الكبرى.

وبعد أن أُزيل طقس القربان في التقاليد اليهودية والمسيحية، كيف يمكن أن يتحوّل اليوم إلى وسيلة لعقاب شعب بأكمله، بدافع توهّم التقرّب من الله من خلال هذه الأفعال المنحرفة؟ فإلى ماذا يُقرّب هذا القربان الباطل إسرائيل؟


#أطفال فلسطين
#الهولوكوست
#القربان
#اليهود
#الأضحية
#الإبادة الجماعية
#المحرقة
#إسرائيل
#غزة