لقد بات اسم غزة اليوم أقوى رمز للحرية وأجدرها بالتقدير، وأكثر الأماكن قداسةً، حيث يعيش الأحرار، ويقاومون، ويستشهدون. فكل ما تلامسه أيدي هؤلاء الشجعان، وكل ما يروى بدمائهم، وكل ما يتسنشقونه يصبح رمزًا بحد ذاته. فهل يمكن لأدبٍ يُكتب عنهم أن يكون أبلغَ أو أعمقَ تأثيرًا مما سطّروه هم بأنفسهم بدمائهم وتضحياتهم؟
إنهم أشبه بمن خرج من رحم الآيات، يكشفون الحقائق التي توقظ بصيرة الإنسان، وكأن كلّ واحد منهم حواريٌّ من حواريي الأنبياء، أو صحابيٌّ أو وليٌّ. لقد حوّلوا كل مكان حلّوا فيه إلى أرض مقدسة.
لم يعد السابع من أكتوبر مجرد يومٍ عابر، بل أصبح أذانا إلهيا يوقظ أمةً نُثر عليها تراب الموت، ليعيدها إلى عبادة الله وحده. لقد تجاوز اسم طوفان الأقصى رمزيته التي تشير إلى المسجد الأقصى، وحتى طوفان نوح الذي كان بداية ميلادٍ جديدٍ للبشرية، ليصبح اسمًا يشير إلى واقعه وتأثيره الخاص بشكل أكبر. إنه نداء فلاحٍ للعالم أجمع. فمن غير أبطال غزة، الذين فتحوا بأيديهم المخضبة بالدماء أبواب نظام حبس الناس، واستعبدهم، وقيدهم بسلاسل مرئية وغير مرئية، كان يمكنه أن يحمل رسالتهم بشكل أجمل وأكثر تأثيرًا؟
فمن يرزح تحت قيود مرئية وغير مرئية لا يمكن أن يتحرر بالأدب فقط، ولا بالخطابات الرنانة. إذ لا بدّ للإنسان أن يُبصر أولًا أنه غير حرّ، فلا خلاص من عبودية العباد إلا حينما يُدرك المرء أنه سلك مسالك العبودية لغير خالقه.
يُعدّ الشاعر المصري أحمد شوقي بمنزلة محمد عاكف في تركيا، وهو صاحب البيت الشهير الذي يقول فيه: "وللحرية الحمراء بابٌ، بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقّ"، هذا البيت جزء من قصيدة أطول تتحدث عن نكبة الشام، وقد وجد قيمته الرمزية الكبرى على لسان يحيى السنوار. فعندما قال السنوار هذه الكلمات وهو يواصل جهاده متنقلاً بين أنقاض غزة، منحها أقوى تأثير حقيقي وأعمق معنى. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت هذه الكلمات تنتمي إلى يحيى السنوار ونضال رفاقه، أكثر من انتمائها لأحمد شوقي. لقد تحوّلت هذه الكلمات إلى رمز حيّ ناطق، يُسمّي النضال، ويعانق حقيقته، ويعبّر عنها بأصدق تعبير.
أليس هذا هو معنى الرمز أصلًا؟ أن يلتقي جزآن انفصلا عن بعضهما، وربما تاه أحدهما عن الآخر، ولكن يجتمعان مجددا.
هذا صحيح. إن النضال العظيم الذي يتجلى في غزة، وما عاناه أولئك الذين فتحوا "باب الحرية الأحمر" بأيديهم المضرجة بالدماء، هو تجلٍّ للحقيقة التي تتجاوز الأدب قدرةً وتأثيرًا. ورغم ذلك ينبغي ألا نصمت بحجة أنه لا يُمكن فعل شيء أفضل من ذلك، فما يخزن في ذاكرة الإنسان عرضة للنسيان. والأحداث التي شاهدناها ولم ننقلها أو نروها، لها حق علينا. وغزة لها حق على الجميع. لقد أنكر البشر العديد من الآيات بمجرد رؤيتها. لذا يجب على البعض على الأقل أن يشهد، ويروي، وينقل ما حدث، فلعل من لم يحضر ولم يشهد، يعي أكثر ويستخلص دروسًا أعمق ممن كانوا هناك.
لقد انطلق صديقنا العزيز سليمان جيران في رحلة لجمع ذاكرة غزة من خلال هؤلاء الشهود، وقد أنجز عملاً قيمًا للغاية. فقد قام بتجميع شهادات حول غزة لكتّابٍ أتراك ومن قطاع غزة في كتاب من ثلاثة مجلدات بعنوان "الباب الأحمر"، لتكون توثيقًا للحظات ذاكرة تجسّدت في الإنسان، والرمز، والمكان. وفي إحدى مقابلاته، أعرب عن توقعاته من هذا الجهد قائلاً: "الحديث عن غزة.. فهم عملية طوفان الأقصى من قبل الشباب وعدم نسيانها.. أن يتحرك مسلمو تركيا بتوافق تام حول قضية غزة.. تقديم دعم اقتصادي ومعنوي لغزة من خلال هذا العمل.."
وتحت عنوان "الإنسان"، يتناول الكتاب شخصياتٍ أصبحت رموزًا في صمودها وتحوّلت إلى قامات شامخة في غزّة، ممن تميزوا بمكانتهم الرفيعة ليجسدوا أسمى معاني الكرامة البشرية كإسماعيل هنية، ويحيى السنوار، ومحمد الضيف، وصالح العاروري، وأبو عبيدة، وخالد مشعل، وخالد نبهان، إلى جانب الجراحين، والأطباء، والممرضات، والصحفيين، وأم أسامة، وأم حذيفة. وفي المقابل يتحدث الكتاب عن أولئك الذين انحدروا إلى أسفل سافلين عبر تواطئهم الأخلاقي والسياسي مع الإبادة الجماعية، مثل يورغن هابرماس، ومايكل والزر، ومحمود عباس، وبنيامين نتنياهو، وغيرهم ممن مارسوا سياسات التوازن.
وتحت عنوان "الرمز" يسرد الكاتب كلمات أصبحت علامات دالة على المقاومة النبيلة والنضال في هذه الفترة. هذه الكلمات تمثل إشارات للطريق في غزة، مثل: الخيمة كرمز لمقاومة اللاجئين الصامتة، وميركافا التي تحولت إلى خرق في أيدي الأبطال، وغزة نفسها، والمثلث الأحمر، والركام، والقناص، والولادة، والدواء، والعدسات المصوّبة نحو غزة، والجدار، والزمن في غزة، والقدر الفارغ، والدقيق، ومفتاح العودة، وكرسي يحيى السنوار، وطاولة المفاوضات، وقناة الجزيرة، والقرآن، والأشواك والقرنفل، والشاش الطبي، وكعكة غزة بالليمون، والمعلبات، وكيس الأب الغزاوي، والقماط، والكفن، وجذور الزيتون، وقرط ريم، ولوحة العصفور، والآية 105 من سورة "يس"، وعصى يحيى السنوار التي أصبحت كعصى موسى عليه السلام، والشظايا، وشريحة البطيخ. كل واحدة من هذه المفردات تحوّلت إلى رموز حية في هذا المسار، وعلامات فارقة في مسيرة النضال والمقاومة الشريفة، وقد وثقها وكتبها نخبة من الكتّاب الأفذاذ.
أما الجزء المعنون بـ "المكان"، فنجد فيه توثيقًا للأماكن التي شكّلت مسرحًا لنضالٍ عظيم، حيث تجلّت فيها أعلى درجات ارتقاء الإنسان وأدنى درجات انحداره، وهي أماكن كانت شاهدة على ما جرى. من بينها غزة، التي تبدو كزهرة قرنفل دامية على الشاطئ، ورفح، وجباليا، والشجاعية، وبيت حانون، وخان يونس، ونتيف عشرة، ومحور نتساريم، والأنفاق التي حُفرت بعزيمة وفُتحت نحو الكرامة، ومستشفى الشفاء، والمستشفى الأهلي، وآخر مستشفى في شمال غزة، وغرفة الأطباء والأغنية الصامدة، وسجن "سدي تيمان" الذي يعد غوانتانامو إسرائيل، وساحة فلسطين، والركام، والمساجد، ومدارس غزة، ومدرسة التابعين، والمطبخ المركزي العالمي، ومقهى "ريلاكس"، والأسلحة المعاد تصنيعها، ووسائل التواصل الاجتماعي، والشارع، وأنقرة، وجنوب أفريقيا، وحديقة الليلك.. كل اسمٍ منها يمثل مسرحًا للحدث، ومشهدًا يتجلى فيه صعود الإنسانية وسقوطها في أشد صورها.
وفي غزة، بينما يحاول الأبطال فتح باب الحرية الأحمر بأيديهم المخضبة بالدماء، يؤدّون واجبهم بكل وفاء. ولكن اللافت في هذا الكتاب هو ما أشار إليه المحرّر سليمان جيران من فكرة بالغة الأهمية: إن فتح هذا الباب ليس مسؤولية الغزيين وحدهم. ففي مواجهة الاحتلال، "تتشتت الصفوف خارج غزّة. هناك من يقفون صراحةً في صف الاحتلال الإسرائيلي رغم وجوب وقوفهم مع غزّة، وآخرون يدعمون الاحتلال بشكل غير مباشر عبر اختيار الحياد، والصمت، واللامبالاة، أو التجاهل. كما يُقلل البعض من أهمية دعم الجماهير للمقاومة، أو يلوثون هذا الدعم بفتاوى أو حجج واهية، مقدّمين المصالح السياسية على الحق، مما يجعل كفة المحتل ترجح.
ولا يُمكن الاستهانة بأي خطوةٍ تُتخذ من أجل غزّة، ولا بأي كلمةٍ تُقال، ولا بأي مقاطعةٍ، ولا بأي فعلٍ ولو كان فرديا، فكلها حلقاتٌ في سلسلة المقاومة. ولا بد لهذه الحلقات أن تتحد في انضباطٍ لتشكل سلسلةً منظمة، ويجب أن تنتظم المواقع، فتتحول فرق الكلمات التلقائية إلى فصائل، ثم إلى كتائب، ثم إلى ألوية. ومع الوقت، ستتحول ألوية الكلمات إلى فرقٍ، ثم إلى فيالق، ثم إلى جيشٍ كامل. فلا بد من تشكيل جيشٍ من الكلمات، والأصوات، والألوان، والمشاعر، دفاعًا عن غزّة وكل ديار الإسلام الواقعة تحت العدوان.. ويعد كتاب "الباب الأحمر"، الذي شارك في تأليفه 93 كاتبًا، خطوةً في خدمة هذا الهدف.
وقد صدر الكتاب عن دار نشر "إكين" بإشراف سليمان جيران، ويمكنكم المشاركة أيضاً في هذا المشروع الذي ضم شهادات 93 كاتبًا، عبر اقتناء هذا الكتاب.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة