انطلاقًا من النظرة الاستشراقية النمطية، يُصوَّر شعب بنغلاديش ـ أقصى بلاد الشرق وبلد عربات الريكشا الغامض ـ كشعب خاضع، صامت يتسم بالكدّ والطاعة، ويكافح لكسب لقمة عيشه. فإذا بهذا الشعب، يفاجئ الجميع بخروجه عن هذه الصورة النمطية، ويقوم بثورة حقيقية. فبينما يُعتقد أن الثورات حكر على الغرب، وأن تغيير الأنظمة في الشرق لا يتم إلا عبر مؤامرات القصور أو انقلابات الطغاة أو مكائد الحكام الملكيين، جاءت ثورة بنغلاديش لتُثبت العكس؛ فقد شهدت البلاد ثورة أنيقة بكامل عناصرها ومكوّناتها وعقلها وحماسها وإرادتها، إنها ثورة تحمل في جوهرها فلسفةً واضحة، قادها شعب يطالب بالحرية والكرامة والرفاهية، وأثبت أن لديه الكثير ليقدّمه، وليس فقط قيودًا يرغب بكسرها.
طوال سنوات، تحمّل هذا الشعب الإذلال، وما فرض عليه قسرًا بالقوة والسلاح من خطابات وهوية وتاريخ مزيفين، وأسطورة "الخلاص والمخلّص" التي رُوِّج لها بشكل مصطنع. أما اليوم، فقد أظهروا بجلاء أنّ ما يُروّج من "أسطورة المُخلّص" و"سرديات التحرير المزيفة" التي كانت مدعاة للسخرية حتى من الأطفال، لا يستحق سوى التمرّد والرفض. لم تكن هذه الثورة بغرض استبدال طغاة حاليين بآخرين، أو استبدال رواية عبثية بأخرى، بل كانت من أجل تأسيس نظام حكم أكثر عقلانية، يعترف بإنسانيتهم وكرامتهم.
ثورة حرّرتهم من أساطير "المخلّص" و"التحرير"
منذ الأيام الأولى للثورة، استهدفت الجماهير أسطورة المخلّص التي نسجها النظام حول شخصية الشيخ مجيب الرحمن، والد الشيخة حسينة التي حكمت البلاد بقبضة ديكتاتورية فاشية طيلة 16عامًا. فأين الخلاص في استقلال البلاد عن باكستان ثم تحويلها فورًا إلى دولة تابعة للهند؟ إنّ الاستقلال عن باكستان أمر مفهوم، لكن ما علاقة التحرّر بالانغماس في العلمانية إلى هذا الحد، والابتعاد تماما عن الدين، واعتناق القيم الهندية بهذا الشغف والاندفاع، والتي كانت حتى الأمس القريب تمثّل "الخصم" الذي ناضل الشعب ضده؟ لذلك، ما إن بدأت الثورة حتى هاجم الناس تماثيل الشيخ مجيب الرحمن وصوره، وحتى منزله المطل على ضفاف البحيرة الكبرى في قلب العاصمة دكّا حيث عاش هناك لسنوات طويلة. فحطموا كل ما فيه وأُحرقوه بالكامل، بكل ملحقاته. واليوم، بات الناس يزورون هذه الأنقاض وجميع رموز حسينة ومجيب الرحمن لأخذ العبرة والعظة. ويلتقط الشباب الصور وسط هذه الخراب، فهذه هي نهاية كل الفراعنة مهما طال بهم الزمان.
ومن أجل بناء مستقبل بنغلاديش، تتعاون العديد من منظمات المجتمع المدني والحركات الشبابية وتعقد جلسات لتبادل الأفكار. وقد شاركنا في عدد من المؤتمرات والحوارات الشبابية ضمن هذا السياق. ومن أبرزها مؤتمر دولي بعنوان "إرث ثورة تموز 2024.. إعادة إعمار بنغلاديش"، الذي استضافه معهد القانون والعدالة الدولي في جامعة دكا في السابع والعشرين من يوليو. وقد تأسس المعهد رسميًا عقب قيام الثورة، على يد مبادرة شبابية كانت ناشطة حتى قبل اندلاع الثورة. علمًا أنه لم يكن من الممكن ممارسة مثل هذه الأنشطة في السابق. وقد أسّس المعهد مجموعة من الشباب الذين أتمّوا دراساتهم الجامعية أو دراساتهم العليا، وتمكنوا في وقت قصير من تحقيق إنجازات رائعة، من أبرزها توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت خلال فترة حكم حسينة لسنوات طويلة بشكل مفصل للغاية في كتب مؤلفة من آلاف الصفحات.
وشهد المؤتمر في جامعة دكا مشاركة عدد كبير من المؤسسات والمنظمات، وجسّد رغبة جماعية في مواصلة حمل الروح الديمقراطية لثورة يوليو، واستلهام قيم العدالة والمساواة والحرية، وترسيخها كالتزام دائم في مستقبل البلاد.
ومن أبرز الشخصيات التي حضرت الاجتماع كانت نور العزة أنور، ابنة رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم ونائبة رئيس حزبه. وقدّمت أنور تقييمات عميقة لثورة يوليو في بنغلاديش، مستندة إلى التجربة الماليزية، وحذّرت من المخاطر المحتملة التي قد تواجه الديمقراطية الناشئة في بنغلاديش.
حراسة الثورة من السرقة
تلقيت دعوات من عدد من المؤسسات، وكانت تلك المؤسسات تجمع في وقت وجيز، أعداد كبيرة من الناس للاستماع إلى "ضيف من تركيا". وكانت كل فعالية تُنظَّم بسرعة وباحترافية عالية، بحيث تستوفي جميع شروط التنظيم المهني. في هذه اللقاءات، كانت الأسئلة تتمحور حول تركيا، ونهضتها كقوة إقليمية صاعدة. ويمكنني القول بلا تردد إن هناك تعاطفًا شديدًا مع تركيا، غير أنه ليس تعاطفًا سطحيًا أو قائمًا على أوهام بعيدة، بل هو تعاطف نابع من وعي عميق ومتابعة دقيقة لمسيرة تركيا، يرافقه وعي معرفي عميق بما يجري في العالم. لقد كان الحديث مع جمهور مثقف على مستوى عال من النضج الفكري متعة حقيقية. وفي الحقيقة، وجدتُ متعة أكبر في الإصغاء المطوّل إلى الآخرين أكثر من التحدث.
ويؤكد الشباب هناك أنهم كانوا القوة المحرّكة والمحورية في الثورة، حتى إن بعضهم أشار إلى قاعات اللقاء التي كنا فيها بوصفها الأماكن التي جرى فيها التخطيط لبعض الخطوات الحاسمة في مسار الثورة. ولا يمكنني الجزم بصحة ذلك، غير أن إصرارهم على التصريح بذلك يعكس قلقهم من سرقة الثورة من قِبل قوى أخرى، وتهميش أصحابها الحقيقيين أي الشباب. ففي ثورات الربيع العربي شهدنا انفصالًا مؤلمًا بين صانعي الثورة وبين من حرفوها عن مسارها في اتجاه مختلف تماما. إن الشباب في بنغلاديش واعون لهذه النماذج، ويسعون للحصول على إجابات من التجربة التركية والربيع العربي حول كيفية صيانة الديمقراطية الوليدة التي نالوها بشق الأنفس. وهم لا يطرحون الأسئلة فقط، بل يحمل كل منهم آراء، ومخاوف، وحلولًا تخص هذه المسألة المصيرية. والسؤال الآن: كيف سيتمكن هؤلاء الشباب الوطنيون المفعمون بالحيوية من بناء مستقبلٍ بنغلاديش في ظل تلك المخاوف؟!
التحفيز الذي قدمه مسلسل "قيامة أرطغرل"
روى أحد الشباب كيف أن المسلسلات التركية شكّلت بالنسبة لشباب بنغلاديش أقوى سند أيديولوجي في مواجهة الهيمنة الفكرية القائمة، وساهمت في تحوّلهم إلى فاعل في الثورة. تلك الهيمنة التي سحقت ثقة البلاد بنفسها، وسعت لسلب الجماهير هويتهم أمام سلطة قوية تابعة للهند. لقد أقنعتهم المسلسلات التاريخية التركية بأن المسلمين كانوا فاعلين في صنع التاريخ في الماضي، ويمكنهم أن يكونوا كذلك اليوم أيضًا.
كان هذا موضوع متفقا عليه من قبل جميع الحاضرين. فالمسلسلات مثل "قيامة أرطغرل"، و"السلاجقة"، و"المؤسس عثمان" لم تساهم فقط في زيادة وعي الشعب التركي بأنفسهم، بل حفّزت أيضًا النماذج البطولية التي قدمتها هذه الأعمال الدرامية على أن يكونوا فاعلين اجتماعيين.
ولم تكن هذه المسلسلات تُبث عبر التلفزيون الرسمي، بل انتشرت بشكل واسع عبر موقع يوتيوب، ما أتاح لجماهير واسعة الوصول إليها. وهكذا، رغم الحصار الجغرافي والسياسي والثقافي الذي فُرض على بنغلاديش عبر الهند وأذرعها السياسية المحلية، شكّلت هذه المسلسلات أفقًا جديدًا وحافزًا ملهمًا للشعب البنغالي. ولما لاحظ نظام حسينة هذا التأثير المتنامي للمسلسلات التركية، سعى إلى كبحه من خلال عرض مسلسل "القرن العظيم" (حريم السلطان) عبر التلفزيون الرسمي، غير أن هذه الخطوة جاءت بنتائج عكسية؛ إذ لم تؤثر سلبًا على الرواية البطولية العثمانية، بل عززتها لدى الجمهور، مضيفةً بعدًا جديدًا لصورة الدولة العثمانية بصفتها مركزًا للخلافة وقوةً عظمى. وهذه التجربة وحدها، بكل أبعادها، خلقت تجربة لافتة ودالة.
تركيا دائمًا في صدارة اهتماماتهم
إن ما يجعل تركيا مصدر إلهام عميق بالنسبة لهم لا يقتصر على المسلسلات التاريخية فحسب، بل يتعدى ذلك إلى مكانتها الراهنة في الساحة الدولية، فضلًا عن مركزيتها التاريخية بالأمس القريب. فشعب بنغلاديش يُمثّل القلب النابض لشبه القارة الهندية العريقة، تلك التي شاركت بأموالها ومتطوعيها في حرب الاستقلال التركية، ولا تزال تلك التضحيات محفورة في الذاكرة. إنهم يستذكرون هذه الوقفة العظيمة باعتبارها جزءًا من "حركة الخلافة"، بل لم ينسوها قط. ويقولون: " إن وضع تركيا يهمنا دائمًا في المقام الأول". ويوجّهون دعواتهم لرجال الأعمال الأتراك للاستثمار في بلادهم، وللمؤسسات التركية لافتتاح مقار جديدة وتوسيع حضورها، بروح الأخوة والشراكة، لا بروح المصالح المجردة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة