
اعتدتُ في الآونة الأخيرة أن ألقي نظرة على "جوجل تريندز" قبل مغادرة المنزل صباحًا. ولكن منذ التدريب الذي تلقيناه مؤخراً حول الذكاء الاصطناعي، أصبحت أرى هذه القائمة بعين مختلفة. فهي تُظهر ما يبحث عنه ملايين الناس، وما يثير فضولهم، وما يشغل بال المجتمع التركي. وفي مجال الصحافة، يسبق الفضول قبل القلم. واليوم أصبحت محركات البحث هي نقطة التقاء الفضول والإجابات.
وفي صباح اليوم الماضي عندما فتحتُ صفحة “الترند”، ظهرت في مقدمة قائمة الكلمات الأكثر بحثاً صورة مألوفة: من هو دينيز غول، الشاب الموهوب الذي ذاع صيته بالهدف الذي سجّله في مباراة إسبانيا؟ تلتها استفسارات حول مباراة المنتخب الوطني، ثم حلقات جديدة من المسلسلات الشهيرة، والبحث عن المقاطع الدعائية…كانت تركيا تبحث كالمعتاد عن أجندتها اليومية على جوجل. إلى أن وقعت عيناي على كلمة في منتصف القائمة: "آلة القمار".
لقد تسرب مصطلح متعلق بالمقامرة إلى قائمة الكلمات الأكثر بحثاً في بلدنا خلال الـ 24 ساعة الماضية، بين المسلسلات والمباريات ولاعبي كرة القدم. وعندما ضغطت على الكلمة للاطلاع على التفاصيل، وجدت نفسي منغمساً في الرسوم البيانية التي عرضها جوجل. كان جوجل يُقدّم تحليلاتٍ ساعيةً لعمليات البحث، وتوزيعها حسب المدن، وحتى الاستفسارات المرتبطة بها.
إن عمليات البحث عن "آلة القمار" بلغت ذروتها في الأسابيع الأخيرة في نفس التوقيت. وهذا المقال هو نتاج ساعات من البحث بدأت حين استوقفتني تلك الكلمة.
كأنك تلعب ألعاب المطابقة الثلاثية
من غير المعقول أن يكون الآلاف من الناس قد تساءلوا في الوقت نفسه عن ماهية آلة القمار، أليس كذلك؟ لابد أنكم رأيتموها في الأفلام الأمريكية: آلة القمار هو اسم ذلك الجهاز الملون المضيء في قاعات الكازينو. يربح اللاعب عندما تتطابق الأشياء المتدفقة بسرعة على شاشتها المتحركة ثلاث مرات على نفس الخط.
إن منطق آلة القمار هذه مألوف جداً في الواقع. فهو يعمل بنفس مبدأ ألعاب المطابقة الثلاثية مثل "كاندي كراش" التي يلعبها الملايين على هواتفهم المحمولة اليوم. الألوان، وأصوات الجوائز، والمكاسب الصغيرة المتتالية... لكن آلة القمار ليست مصممة لجعلك تكسب بل لتخسر. وفي العصر الحديث، لم تعد مجرد صندوق معدني يقبع في زوايا الكازينوهات، بل انتقلت إلى "الجيوب". فبدلاً من سحب الذراع، تلمس الأصابع الشاشة، وتبدأ الخوارزمية في العمل، وتبدأ الخسارة.
كل ليلة في الساعات نفسها..
إذا نظرنا إلى الرسومات البيانية لمؤشرات "جوجل تريندز" على مدى الأيام السبعة الماضية، فسنجد أن في تركيا عدداً كبيراً من “المدمنين”. يظهر جدول البحث عن "آلة القمار" على مدى أسبوع ما يلي: هناك موجة بحث ترتفع بانتظام، في نفس الساعات، كل ليلة. وتبدأ عمليات البحث بعد الساعة 02:00، وتبلغ ذروتها بين 03:00 و04:00، ثم تكاد تنعدم عند بزوغ الفجر.
وهنا سأقدم معلومة تقنية: لكي يدرج "جوجل تريندز" كلمةً ما في القائمة، يجب أن تحقق تلك الكلمة قفزة استثنائية خلال فترة زمنية محددة. ويُطلق عليها في "جوجل تريندز" عمليات "الاختراق" . فدخول كلمة أو مفهوم في قائمة الترند يعني أن آلاف الأشخاص يبحثون في نفس التوقيت. وإذا تجاوزت الكلمة معدل بحثها السابق بعشرة إلى خمسة عشر ضعفاً، فإنها تدخل قائمة الترند. لذا فإن دخول "آلة القمار" قائمة الترند في تركيا يكشف عن البصمات الرقمية لآلاف الأشخاص.
هل لاحظتم ساعات الذروة في عمليات البحث، وبالتالي"النقرات"؟ إنها بعد منتصف الليل وقبل الصباح الباكر… إنها الساعات التي تزداد فيها مشاعر الأرق والوحدة والتوتر والحاجة إلى المخاطرة. ويبدو أنها أيضاً الأوقات التي يكون فيها الإدمان الرقمي على القمار أكثر وضوحاً.
خمس ولايات في قبضة القمار الإلكتروني
لم تقتصر القصة التي ترويها بيانات غوغل على هذا فحسب. فعندما فتحت خريطة تركيا، لفت انتباهي تفصيل آخر. كانت الولايات الخمس الأكثر بحثاً عن "آلة القمار" هي: كيليس، وغازي عنتاب، ومانيسا، وإغدير، وكارابوك. يمكن تفسير انعكاس هذه المدن الخمس في الرسوم البيانية عبر أسباب اجتماعية واقتصادية.
سأكتفي في الوقت الحالي بنقل البيانات. وإن أراد المسؤولون والجهات المعنية البحث في الأمر فمؤشرات "جوجل تريندز" متاحة للجميع.
عندما وصلت إلى جزء "الاستفسارات ذات الصلة" في الرسوم البيانية الخاصة بالبحث عن "آلة القمار" (Slot Makinesi)، تحول المشهد إلى شيء مختلف تماماً. فكانت هناك مئات من عمليات البحث المكتوبة بأحرف تايلاندية تحت كلمة "Slot"، على سبيل المثال: "สล็อต pglucky88 pro"، و "pgboom99 store"، و "สล็อต vip". وبحثت عنها بحذر لأعرف ماهيتها، فقادتني كلها إلى مواقع قمار غير قانونية تتخذ من الشرق الأقصى مقراً لها. ووفقاً للرسم البياني، فبينما كان البحث عن "آلة القمار" يرتفع في تركيا، كان التوجه نحو المواقع التايلاندية يرتفع في الوقت ذاته. وهذا يشير إلى أن تركيا هي إحدى الدول المستهدفة من شبكات البريد العشوائي الدولية المتعلقة بالمقامرة.
إذا باع أحدهم منزله فجأة دون سبب...
وبينما كنت أتفحص بيانات جوجل، تذكّرت ما قاله لي قبل أشهر صديق لي، أخصائي نفسي. كنا نتحدث عن الإدمان على وسائل التواصل والشاشات عمومًا، فقال لي: "القمار الإلكتروني يحتل المرتبة الأولى حالياً". ومع استمرار الحديث أفرغ العبء الذي يحمله على عاتقه قائلا: "لقد سئمت من سماع نفس القصص باستمرار. حياة الأثرياء تنقلب فجأة رأسًا على عقب".
ثم أضاف بهدوء: "إذا باع أحدهم منزله فجأة دون سبب واضح، أو تخلص من سيارته، فإنني أبدأ بالشك. بيع المرء البيت الذي يعيش فيه يعني تراكم الديون عليه. وحتى لو طلب منك صديق أو أحد المعارف مبلغًا صغيرًا لأسباب درامية ولم يسبق له أن استدان منك، فعليك أن تنتبه. وإذا انتهى زواج سعيد فجأة… فغالبًا يقف القمار الإلكتروني وراء ذلك."
صمت للحظة ثم قال شيئًا أثقل وقعًا: "الأكثر إيلاماً هو حوادث الانتحار. فهناك أناس مستقرون في عملهم، ومتعلمون، وملتزمون، ويحظون بالاحترام باحترام عائلاتهم… ينهون حياتهم. والسبب الحقيقي وراء تلك الحالات التي تبدو بلا سبب هو مستنقع ديون هائل. والأسوأ من ذلك أن بعضهم، يقتل معه أبناءه وزوجه، حتى لا يُحمِّلهم الديون."
انخفاض السن إلى 15 عاماً
وقفتُ مذهولًا للحظة؛ إذ تداخلت تلك الكلمات مع الرسوم البيانية التي عرضها لي غوغل في ذلك الصباح، لتكشف معًا عن حريقٍ صامت يتسع في تركيا، حريقٍ ينبغي التحذير منه بأعلى صوت ممكن. ويؤكد تقرير القمار في تركيا الصادر عن "جمعية الهلال الأخضر" حجم الصورة القاتمة؛ إذ يُظهر أنّ 10% من السكان ممن تجاوزوا 15 عامًا لعبوا القمار مرة واحدة على الأقل في حياتهم، وأنّ سنَّ ممارسة القمار انخفض فعليًا إلى 15 عامًا. وبين عامي 2021 و2024، تقدّم 15,624 شخصًا بطلب للعلاج من إدمان القمار لدى مراكز "YEDAM"، وكان 97.4% من الراغبين في العلاج من الذكور. وتُظهر هذه البيانات أنّ سهولة الوصول الرقمي جعلت هذا النوع من الإدمان غير مرئي، لكنه بات أسرع انتشارًا بكثير.
جوجل يعرف كل شيء
في هذه النقطة يُفترض بنا أن نعتقد أن جوجل قد سلّط فجأة ضوءاً عابراً على تلك الغرفة المظلمة التي لم يطلع عليها أحد منذ فترة طويلة. ولكن الأمر ليس كذلك. فجميع عمليات البحث عن "آلة القمار" تقود إلى مواقع قمار غير قانونية تعمل تُشغّلها شبكات بريد عشوائي غير قانونية ومقرها تايلاند. من الذي يوجّه الأشخاص في تركيا نحو تلك المواقع من هواتفهم قبيل الفجر؟ سأجيب مباشرة: خوارزمية جوجل. لا توجد إعلانات ظاهرة لمحركات البحث. كل ما في الأمر أن غوغل، بمهارة الخوارزمية أو عبر ثغراتها، يقوم بـ "إعادة توجيه حركة المرور". أي أن غوغل يحوّل آخر ما تبقى لدى مدمني القمار في تركيا من أموال إلى كازينوهات غير قانونية في الشرق الأقصى.
إذن، هل يمكن أن يكون جوجل أكبر كازينو في العالم؟ سأواصل البحث في هذه المسألة، لأن جوجل يعرف كل شيء، ويبدو أنه لا يفي بالتزاماته بالرقابة الخوارزمية.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة