إلى أين تتجه الولايات المتحدة؟

08:028/09/2025, الإثنين
تحديث: 28/09/2025, الأحد
سليمان سيفي أوغون

وصل ترامب إلى السلطة رافعًا شعار إعادة أمريكا إلى النهوض من جديد، وجعلها قوة فاعلة كما كانت. ولم يمضِ على وجوده في البيت الأبيض سوى ثمانية أشهر، لكن ما فعله خلال هذه الفترة القصيرة أثار جملة من التساؤلات. السؤال الأول الذي يطرح نفسه يتعلق بمستقبل ترامب السياسي: هل سيتمكن من إكمال فترة رئاسته بشكل طبيعي؟ فمع استمرار تناقضاته، وتشديده المتزايد في مواجهة خصومه، يصبح من الصعب الجزم بأنه سيتمكن من إتمام ولايته حتى النهاية. غير أن القضية لا تتعلق فقط بمسألة التشدد. فالسياسة لا تسير دائمًا وفق مبدأ الفعل

وصل ترامب إلى السلطة رافعًا شعار إعادة أمريكا إلى النهوض من جديد، وجعلها قوة فاعلة كما كانت. ولم يمضِ على وجوده في البيت الأبيض سوى ثمانية أشهر، لكن ما فعله خلال هذه الفترة القصيرة أثار جملة من التساؤلات.

السؤال الأول الذي يطرح نفسه يتعلق بمستقبل ترامب السياسي: هل سيتمكن من إكمال فترة رئاسته بشكل طبيعي؟ فمع استمرار تناقضاته، وتشديده المتزايد في مواجهة خصومه، يصبح من الصعب الجزم بأنه سيتمكن من إتمام ولايته حتى النهاية. غير أن القضية لا تتعلق فقط بمسألة التشدد. فالسياسة لا تسير دائمًا وفق مبدأ الفعل ورد الفعل. وليس كل تصلب ينتهي بالتبخر. والتجارب تثبت أن أنظمة سلطوية وتوتاليتارية كثيرة استطاعت أن تبقى لعقود بفضل ديكتاتوريات قوية.


أول مثال يخطر على البال هو إسبانيا. فقد حكم الديكتاتور فرانكو البلاد حتى وفاته، وقادها خلال أزمات عديدة. وكان الفالانجيون يتبنون خلال الحرب العالمية الثانية أيديولوجيا قريبة من النازية والفاشية، لكن فرانكو تحلّى بالدهاء ولم يزج بإسبانيا في الحرب. وبعد انتهائها جنى ثمار هذا الموقف؛ فلم يُدرج في عمليات التطهير من النازية والفاشية، ولم يُمس نظامه بسوء، بل ظل يحكم إسبانيا حتى وفاته.


ومثال آخر من البرتغال المجاورة، حيث حكم سالازار، صديق فرانكو وحليفه، حتى إصابته بمرض شديد عام 1968 أجبره على التنحي. لكن حتى حينها، الذين أزاحوه كانوا من نفس مدرسته الفكرية، ولم يشعره أحد بأنه أُقصي. بل إن البروتوكولات الرسمية ظلت تُطبَّق عليه حتى وفاته سنة 1970. ولم تحدث ثورة القرنفل بقيادة سواريش، التي نقلت البرتغال إلى الديمقراطية، إلا بعد وفاته بأربع سنوات.


وفي أمريكا اللاتينية، حكم الديكتاتور التشيلي بينوشيه منذ انقلابه على أليندي وارتكابه المجازر عام 1973 حتى عام 1991. ورغم أنه سمح بانتخابات ديمقراطية عام 1987، لم يتمكن أحد من إزاحته. بل بقي قائدًا للجيش حتى 1998. وفي أواخر حياته، خضع للمحاكمة لكنه لم يُعاقَب إلا بالإقامة الجبرية، وكان حينها شبه ميت سريريًا. وهكذا رحل من الدنيا دون أن يدفع ثمن جرائمه، تمامًا كما حصل مع كنعان إفرين، قائد انقلاب 12 سبتمبر في تركيا.


وإذا اقتربنا أكثر إلى حاضرنا، فلو لم تحدث تدخلات خارجية، ربما كان صدام حسين أو القذافي لا يزالان في السلطة إلى اليوم.


بطبيعة الحال هناك نماذج أخرى لزعماء أسقطتهم شعوبهم، مثل الديكتاتور الروماني تشاوشيسكو. لكن استحضار الأمثلة السابقة يوضح أننا بعيدون عن اعتبار سقوط الديكتاتور أمرًا حتميًا، كما لو أنه قانون من قوانين علم الاجتماع.


إذن، لماذا أقول إن مستقبل ترامب محفوف بالشكوك؟ السبب أن الحديث هنا عن الولايات المتحدة، وهي دولة كبرى مهيمنة على النظام العالمي، لا يمكن مقارنتها بإسبانيا أو تشيلي. فالديكتاتوريون في أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال، كانوا يستغلون ركائز مثل الكاثوليكية لترسيخ سلطتهم. أما في حالة أمريكا، فعلينا أن نعيد النظر في "المكوّن التأسيسي" الذي بُنيت عليه الدولة.


الجميع يدرك أن المراحل الأولى من تأسيس أمريكا كانت دموية، قاسية، متوحشة، وضيقة الأفق. لكن "المعجزة الأمريكية" الرأسمالية وُلدت من رحم هذه القسوة. فقد كانت عمليات لا يربح فيها المنتصر وحسب، بل يخسر فيها المغلوب كل شيء. وعندما تطورت الولايات المتحدة لتصبح قوة ذات ادعاء عالمي وهيمنة شاملة، فرض ذلك بُعدًا جديدًا: وهو ما يمكن تسميته بـ"شخصية أمريكا" أو "صورتها"، التي سُوِّقت على أنها "الحلم الأمريكي"، مرتكزة على ثلاثية الحرية والفرصة والرخاء.


سياسيًا، جرى تعميد هذه الصورة بقيم الليبرالية والديمقراطية وسيادة القانون. وبعد الحرب العالمية الثانية تحديدًا، تحولت الولايات المتحدة إلى مركز جذب للبشرية جمعاء، فغطّت هذه الصورة المشرقة على ماضيها الدموي، وبُنيت دعاية ضخمة لتسويقها كبلد مختلف كليًا. وقد نجحت واشنطن إلى حد بعيد في هذا. بل حتى أكثر خصومها كانوا يحتفظون في أعماقهم بشيء من الإيمان بهذه الدعاية. (ولولا ذلك، كيف نفسر أن أجيال اليسار المناهض للإمبريالية تحولت سريعًا إلى الليبرالية بعد سقوط جدار برلين؟).


إنها صورة غريبة لأمريكا: لا تظهر فيها الأعماق المظلمة لملايين البشر الذين يعيشون في الوسط الزراعي للولايات المتحدة أو في "حزام الكتاب المقدس". فهذه المناطق تُعتبر مجرد شذوذ أو تفاصيل ثانوية. أما "أمريكا الحقيقية" فهي أمريكا الساحل الشرقي الليبرالية. (وكأن محاكمات الساحرات في سالم لم تُعقد في ماساتشوستس نفسها!).


أما الطبقة الوسطى الأمريكية الواسعة والغنية، فقد تبنّت هذه الصورة واعتقدت أنها بالفعل الروح التي قامت عليها البلاد. وكل عمليات أمريكا السوداء حول العالم جرت تحت هذه الواجهة. فالحروب ضد الشيوعية، وتدمير العراق، وحتى قتل أكثر من مليون إنسان، كانت تُسوَّق على أنها دفاع عن الديمقراطية والحضارة. لم يكن المهم ما يحدث في الداخل، بل ما يُسوَّق للخارج. فحتى غوانتانامو لم يُبنَ داخل أمريكا، كي لا يلوث الداخل.


لكن ما يفعله ترامب اليوم هو تمزيق هذه "الشخصية" التي رُسمت للولايات المتحدة، وتدمير هذه الصورة بالكامل. والمفارقة أنه يفعل ذلك وهو يدّعي أنه يريد إعادة أمريكا إلى عظمتها كقوة عالمية! في حين أن ما جعلها قوة عالمية كان هذه "الواجهة" بالذات. وإذا سقط القناع، فلن يبقى شيء.


إنها جدلية التاريخ التي تعمل الآن: سيُكتب مستقبلًا أن انكماش الولايات المتحدة وتراجعها وانهيارها الداخلي قد حدث بفعل أولئك الذين ادعوا أنهم أرادوا إعادة عظمتها من جديد.

#ترامب
#أمريكا
#الشيوعية
#الليبرالية