كما أكدتُ مرارًا في مقالاتي السابقة، ثمة تناقض جوهري يعصف بالرأسمالية العالمية. فعمليات التراكم والاستثمار الخاصة بها تجلب معها، بشكل ديالكتيكي، سلسلة من الأزمات. وبعبارة أبسط، لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية وارتفاع دائم في مستوى الرفاه. ذلك أن عمليتي التنمية والرفاه، رغم بريقهما، تُحدثان مع مرور الزمن أثرًا يؤدي إلى خفض إنتاجية العمودين الأساسيين اللذين يقوم عليهما النظام الرأسمالي: العمل ورأس المال.
ومع تضخم الطبقة الوسطى المصاحب لزيادة الرفاه، لم يكن ذلك نتيجةً للنمو الاقتصادي وحده، بل كان بالأحرى عاملًا رئيسيًا في إخماد هذا النمو.
في مثل هذه الحالات، أمام رأس المال خياران لا ثالث لهما. لنبدأ بالأول. يتمثل الاحتمال الأول في أن يحوّل رأس المال ثقله السياسي نحو النزعة الشوفينية العدوانية (الجِنغوية).
والجِنغوية تعني باختصار تقديم الحرب على السياسة وإشاعة النزعة الحربية. والحرب متأصلة في طبيعة الرأسمالية، فهي دائمًا ما تأتي لإنقاذها في أصعب الأوقات وأحرجها. فهي تعيد للاقتصاد حيويته عبر عسكرة الإنتاج، كما تفتح المجال أمام الاستثمارات الضرورية لإصلاح ما تخلّفه الحروب من دمار. ولا شك أن الجِنغوية تجد أقوى دعم لها في الأيديولوجيات مثل النازية والفاشية.
إن العلاقة الوثيقة بين الحرب العالمية الثانية وأزمة الكساد الكبير عام 1929 باتت اليوم من المسلّمات. كما أن مسارات النمو السريع والانتعاش الاقتصادي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تعكس بُعدًا آخر لهذا الفهم. فالحرب بما تحمله من دمار شامل، والرفاه بما يمنحه من نعم، يكشفان عن وجهين متلازمين للرأسمالية؛ لا يقوم أحدهما دون الآخر. وكنت أقول دائمًا: لو لم يكن هناك خطر السلاح النووي، لعاودت الدورة نفسها الظهور، ولكانت الحرب العالمية الثالثة قد اندلعت في أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات.
ذلك أن هذه الحقبة كانت اللحظة التي بدأ فيها الازدهار ما بعد الحرب يؤدّي إلى تراجع دراماتيكي في إنتاجية العمل ورأس المال. لكن الخطر النووي شكّل عامل ردع.
وحاولت القوى الرأسمالية تعويض الخسائر عبر تضخم مالي مفرط يقوم على تشديد الدولرة. غير أن ذلك لم يكن حلًا، فمع انخفاض الإنتاجية، لم تتحوّل الأموال المطبوعة إلى إنتاج، بل أدت إلى ما يُعرف بالفقاعات في قطاعات مختلفة. (النمط الذي نعرفه اليوم باسم "رأسمالية الاستهلاك" وما يرافقها من انحطاط أخلاقي هو ثمرة هذه الفقاعات).
صحيح أن الأوليغارشيات المالية حققت أرباحًا طائلة من هذه العملية، لكنها لم تُسهم في العلاج، بل أدت إلى تفاقم الوضع القائم على ديون مفرطة لم يعد سدادها ممكنًا، ما زاد الاقتصاد سوءًا.
أما الخيار الثاني أمام رأس المال، فيرتبط بهروب الشركات ورؤوس الأموال من آثار مجتمعات الرفاه التي ترفع الضرائب وتزيد التكاليف. وهذا ما حدث بالفعل، حيث هجرت رؤوس الأموال الغرب المترَف، لتنتقل إلى مناطق تتسم بانخفاض أجور اليد العاملة، وضرائب متدنية، وتشريعات ميسّرة.
وفي البداية، لم تكن النتائج سيئة، إذ واصلت هذه الرساميل الاستفادة من بلدان مثل الصين والمكسيك والهند، التي كانت تتوق إلى التنمية والرفاه. لكن الصين على وجه الخصوص نجحت تدريجيًا في الانتقال من الاستثمارات الكثيفة العمالة إلى الاستثمارات الكثيفة رأس المال والتكنولوجيا. فانقلبت الموازين بسرعة، وبدأت الدول والمجتمعات الغربية تتكبّد الخسائر. وأصبح من شبه المستحيل عكس هذا المسار.
فما الذي كان بوسعهم فعله؟ هنا جرى استدعاء الصيغة الجِنغوية المؤجلة. ولنستحضر السبعينيات: صدمة نيكسون التي أطلقت الطباعة غير المنضبطة للدولار، أزمة النفط عام 1973 وما تلاها من نظام البترودولار، صعود الأيديولوجيا النيومحافظة العدوانية في الولايات المتحدة، وصول الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية إلى السلطة، غزو أفغانستان والعراق في عامي 2001 و2003، الثورات الملوّنة، والربيع العربي... كل ذلك كان يُقرأ عبر منشور أزمات السبعينيات.
أما أطروحات "صدام الحضارات" فقد طُبخت في هذا السياق. وما شهدناه من تطورات لم يكن في جوهره سوى تأجيل الحرب العالمية الثالثة التي كان يُحتمل اندلاعها أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. فقد كان ريغان وفريقه عازمين على خوض الحرب، ومع نهاية ولايته عام 1989، كان بوسع جورج بوش الأب أن يوجه الضربة القاضية. غير أن تطورًا غير متوقع حصل، إذ جاء انهيار الكتلة السوفيتية في التسعينيات ليخلق فراغًا هائلًا. ولم يجدوا سيناريو مناسبًا لخوض الحرب، فلجأوا إلى ذريعة "الإرهاب" لشنّ هجمات هنا وهناك، بهدف شحذ بنية الحرب لديهم والحفاظ على شعور التفوق المعنوي. لكن لا أفغانستان ولا إيران ولا القاعدة كانت قادرة على ملء فراغ الاتحاد السوفيتي.
أما أزمات 2008 و2019 و2020 فقد هيأت الظروف للغرب، الذي كان يتكبد خسائر متزايدة بلا توقف، كي يُجسّد عدوه في صورة ملموسة ويتحرك فورًا. فقد لم يعد الغرب يخسر تفوقه الاقتصادي فحسب، بل فقد أيضًا هيمنته الثقافية. وهذا ما غيّر إلى حد كبير ملامح الحرب التي كان من الممكن أن تندلع بسهولة في أواخر السبعينيات لولا الردع النووي. باتت الحرب المؤجلة مسألة وجودية للغرب. وكان العدو الأول المفترض هو الصين. غير أن تصدّعًا حدث داخل رأس المال الغربي: فالأوليغارشية المالية أرادت إعادة إشعال الحرب في روسيا وأوراسيا عبر أوروبا وحلف الناتو، على أن تمتد تدريجيًا إلى أعماق آسيا.
أما شركات الطاقة فكانت تفضّل التحرك مع روسيا والهند، وخوض مواجهة مباشرة مع الصين. وكان بايدن يمثل الخيار الأول، فيما جسّد ترامب الخيار الثاني. وقد سبق بايدن بالتحرك وأطلق حرب أوكرانيا ـ روسيا. وكان تقديرهم أن الصين والهند ستتخليان عن موسكو، لكن الأمور لم تسر كما خططوا. صحيح أن الصين بقيت متحفظة نسبيًا، لكنها لم تتخل عن روسيا. أما الهند فقد شكّلت المفاجأة الكبرى، إذ حافظت على علاقاتها التاريخية مع موسكو، ما ترك القوى الأطلسية في فراغ. وكان يُفترض أن ترامب يُدرك ذلك، وعند وصوله إلى الحكم كان متوقعًا أن يسعى للتقارب مع روسيا والهند لعزل الصين. وقد اقترب بالفعل من روسيا، لكنه خسر الهند بطريقة يصعب فهمها.
ولم تُظهر روسيا أي استعداد للتراجع عن علاقاتها مع الصين أو الهند، بل عززت تعاونها معهما كما ظهر في آخر قمة لمنظمة شنغهاي للتعاون. وبالنتيجة، فشل بايدن وترامب معًا.
أما احتمال اندلاع الحرب الكبرى الثالثة، فقد تعرّض في الوقت الراهن للتأجيل. لكنها بلا شك حرب حتمية ستنفجر عاجلًا أم آجلًا. غير أن الغرب بحاجة أولًا إلى حسم صراعه الداخلي. فنحن نشهد اليوم ارتدادات التوتر المتصاعد بين كتلتين من رأس المال في كل من أوروبا والولايات المتحدة، وقد بلغ هذا التوتر مستوى يُنذر بإشعال حروب أهلية.
وأيًا كان الطرف المنتصر، فالوقت يمضي على حساب الغرب. وستستغل الصين هذا الزمن لتعويض نواقصها وتعزيز قوتها أكثر فأكثر. نعم، فالتاريخ لا يتقدم إلى الأمام وحده، ولا يمكن إرجاعه إلى الوراء أيضًا.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة