لا يتغلب على الفاجر إلا من هو أشد فجورًا منه

07:2818/09/2025, Perşembe
تحديث: 29/09/2025, Pazartesi
سليمان سيفي أوغون

أكبر كوارث القرن العشرين كانت إخضاع ملايين اليهود الأبرياء لتعذيب وحشي في معسكرات الاعتقال وقتلهم هناك. لقد كان ذلك حدثًا مثّل أزمة عميقة وخيبة أمل كبرى لحضارة الغرب. فقبل عقود قليلة فقط، كان يُعتقد أن مسيرة التنوير الغربي المبنية على العقل والعلم والفن والفلسفة ستقود التاريخ نحو مزيد من الإنسانية والأخلاق. غير أنّ الفاشية والنازية، اللتين خرجتا من صلب هذه الحضارة نفسها، قلبتا تلك التطلعات رأسًا على عقب. إذ استعارتا من الغرب كامل بنيته التحتية في العلم والتكنولوجيا والتنظيم، بل وأضفيتا على نفسيهما

أكبر كوارث القرن العشرين كانت إخضاع ملايين اليهود الأبرياء لتعذيب وحشي في معسكرات الاعتقال وقتلهم هناك. لقد كان ذلك حدثًا مثّل أزمة عميقة وخيبة أمل كبرى لحضارة الغرب. فقبل عقود قليلة فقط، كان يُعتقد أن مسيرة التنوير الغربي المبنية على العقل والعلم والفن والفلسفة ستقود التاريخ نحو مزيد من الإنسانية والأخلاق.

غير أنّ الفاشية والنازية، اللتين خرجتا من صلب هذه الحضارة نفسها، قلبتا تلك التطلعات رأسًا على عقب. إذ استعارتا من الغرب كامل بنيته التحتية في العلم والتكنولوجيا والتنظيم، بل وأضفيتا على نفسيهما عمقًا فلسفيًا خاصًا. ولا ينبغي أن ننسى أن الأسس الأيديولوجية للعنصرية كانت مدعومة بشكل مباشر بمعطيات ونتائج علم الأحياء الحديث. فالنازية والفاشية لم تكونا مجرد جنون طارئ، بل كان لهما عقل ومنطق خاص؛ بل الأصح القول إن عقلهما هو الذي نظّم ذلك الجنون.

بعد هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية ـ بصعوبة بالغة ـ طُرح هذا التناقض العميق على الطاولة. واتضح أنه لم يعد هناك ضمان لحضارة الغرب.

ولكي يتمكن من استعادة ادعاءاته الحضارية، بل وهيمنته الثقافية، كان لا بد له أولًا من التخلص من أكبر تناقضاته، أي الاستعمار. لكن كيف؟ فقد كان القسم الأكبر من ثروته يأتي من مستعمراته. فابتكر صيغة جديدة: القبول ـ ولو تدريجيًا ومصحوبًا بالصراعات ـ بمنح مستعمراته استقلالًا سياسيًا، لكن مع إبقائها مرتبطة اقتصاديًا وضمان استمرار مصالحه فيها. الدول حديثة الاستقلال، الفقيرة للغاية، لم يكن بوسعها فعل الكثير أمام هذا الواقع، واضطرت للاكتفاء بمكاسبها السياسية والقانونية.

فقد كانت بحاجة إلى رأس المال، ولا مصدر له سوى أسياد الأمس. وهكذا أجّلت هذه الشعوب أحلام الاستقلال الاقتصادي، وأوهمت نفسها أنها ستحقق التنمية يومًا ما، ومن ثم الاستقلال الاقتصادي لاحقًا. لكن ذلك كان هو الفخ بعينه. وسرعان ما وجدت نفسها وقد أصبحت، ببناها التحتية والفوقية معًا، جزءًا من استعمار جديد. فما كانت تحصّله بالملعقة كانت تخسره بالمغرفة. وكان اسم هذا الاستعمار الجديد: الإمبريالية.


أما بالنسبة للغرب، فقد تغيّر المشهد على الأقل شكليًا، إذ تخلّص من صورته الاستعمارية الفجة. ولكي يغسل عار ماضيه النازي، لجأ إلى أسلوبه المعتاد في "التوبة" وصناعة التبريرات. فكان أول ما فعله هو البحث عن أسباب مخففة للفاشية والفلانجية وأمثالهما، وإلقاء اللوم كله على الألمان والنازيين وحدهم. والحال أن حلفاء هتلر المقربين مثل سالازار وفرانكو ظلوا في الحكم حتى سبعينيات القرن العشرين، فيما كان السياح الأوروبيون يقضون عطلاتهم في بلديهما دون أي حرج.

ثم عمد الغرب إلى الخطوة الثانية: مساواة الاتحاد السوفيتي بالنازية، وتحويله إلى موضوع للكراهية. وهكذا نُسي أن الجيش الأحمر كان أحد أبرز أعمدة التحالف الذي هزم هتلر، وأن شعوب الاتحاد السوفيتي دفعت 23 مليون قتيل في تلك الحرب، في حين لم تتجاوز خسائر الولايات المتحدة 450 ألفًا. ومع ذلك، غمرت العالم بعد الحرب أفلام لا تحصى، غسلت الأدمغة بصور "الجندي الأميركي البطل".

وهكذا صبّ الغرب كل أدرانه على الاتحاد السوفيتي، معتبرًا الحرب العالمية الثانية مجرد "حادث عرضي" في مساره، ليعود بعدها إلى قيمه الأساسية: الديمقراطية والعلمانية وسيادة القانون. لكن ذلك لم يكن ممكنًا إلا باختراع "آخر" جديد. فهتلر رحل، لكن ستالين بات ظله، والنازية انتهت، لكن الاتحاد السوفيتي صار بديلها. أما ألمانيا واليابان، فحُكم عليهما بعقاب لا ينتهي من العار، وجُعلا تحت السيطرة، ليُعاد تشكيلهما كمراكز اقتصادية كبرى للعالم.


بعد الحرب العالمية الثانية، صار اليهود ـ بفضل ما امتلكوه من موارد مالية هائلة ـ الأسياد الجدد للرأسمالية. وقد مثّل ذلك تحولًا عميقًا لم يُلتفت إلى مغزاه بما يكفي. فالرأسمالية نشأت أساسًا على خلفية ثقافية مسيحية/بروتستانتية، كما أوضح المؤرخ فيبر في دراساته الشهيرة. صحيح أن الكاثوليك كانوا تاريخيًا الأشد عداءً لليهود، بينما شهدت البروتستانتية بعض التخفيف لذلك، وإن كانت لا تخلو من تناقضات (يكفي التذكير بعداء لوثر الشديد لليهود، أو بمواقف فولتير وروسو المختلفة منهم). لكن مع ذلك، ظلّت في الولايات المتحدة فئة وازنة تمثل نحو 20% تحمل مشاعر معادية لليهود، وهي نسبة لا يُستهان بها.

وقد دعم جزء من الرأسمال الصناعي، مثل هنري فورد وآخرين، النازيين صراحة خلال الحرب. غير أنهم هُزموا، وأصبح رأس المال الجديد بيد اليهود. ولتحقيق ذلك، كان لا بد من تحويل موقف البروتستانت الأميركيين. وهنا جرى دعم الإنجيليّة (الأفانجليكية) لتقريب المسافة بين اليهودية والبروتستانتية، ولإسكات النزعات المعادية لليهود داخل التيار البروتستانتي.


اليوم، يحتدم الصراع بين القطاع المالي الذي يهيمن عليه اليهود وبين قطاع الطاقة والقطاع الصناعي. وتتصاعد أيديولوجيا "اجعلوا أميركا عظيمة مجددًا" (MAGA)، حاملةً معها موجة جديدة من العداء لليهود. فقد ارتفعت المشاعر المعادية لليهود في الولايات المتحدة مؤخرًا بنسبة تصل إلى 900%. وجاءت مجازر إسرائيل في غزة بعد السابع من أكتوبر لتزيد النار اشتعالًا.

ولا يقتصر الأمر على أميركا؛ ففي أوروبا، نرى أن الحركات اليمينية المتطرفة الصاعدة تحمل في أعماقها تيارات قوية من العداء لليهود. ومن جهة أخرى، يظهر في العالم الكاثوليكي اللاتيني أساس شعبي متين معادٍ للصهيونية. وهكذا، تجد إسرائيل نفسها في موقع متزايد الصعوبة. صحيح أن بعض هذه المواقف يستند إلى قيم إنسانية، لكن التيار الغالب يبقى عنصريًا يستند إلى فكرة تفوق "المسيحية البيضاء". وهو توجه لا يهدد اللاجئين والمهاجرين فحسب، بل يتوجه أيضًا ضد إسرائيل واليهود.


ومن هذه الزاوية، يخطر بالبال المثل القائل: لا يتغلب على الفاجر إلا من هو أشد فجورًا منه.

#القرن العشرون
#المحرقة النازية
#النازية
#معسكرات الاعتقال
#الإمبريالية
#الاتحاد السوفيتي
#الصهيونية