المقاومة وتوثيق الأحداث

09:0122/06/2025, Pazar
تحديث: 22/06/2025, Pazar
طه كلينتش

الكتابة هي شهادة حية. فبها يشهد الإنسان على ذاته، ويشهد على عصره وأحداثه، ويؤدي شهادته باسم الإنسانية جمعاء أيضًا. وبينما ينساب التاريخ في مجراه، يكتب الإنسان - كمن يحاول انتشال شيء مما تجرفه أمامه سيول عارمة- كي لا ينسى ولا يُنسى. بل إنه يكتب أحياناً ليبقى هو نفسه في ذاكرة الزمان. وفي غزة، حيث يتعرض شعبٌ أعزل لأبشع صور الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع العالم أجمع، كان الصحفيون شهود العيان الأصدق على هذا الجُرم، وقد واجهوا امتحانات قاسية، وحملوا على عاتقهم مسؤولية نقل الحقيقة للعالم. وقيمة ما قاموا

الكتابة هي شهادة حية. فبها يشهد الإنسان على ذاته، ويشهد على عصره وأحداثه، ويؤدي شهادته باسم الإنسانية جمعاء أيضًا. وبينما ينساب التاريخ في مجراه، يكتب الإنسان - كمن يحاول انتشال شيء مما تجرفه أمامه سيول عارمة- كي لا ينسى ولا يُنسى. بل إنه يكتب أحياناً ليبقى هو نفسه في ذاكرة الزمان.

وفي غزة، حيث يتعرض شعبٌ أعزل لأبشع صور الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع العالم أجمع، كان الصحفيون شهود العيان الأصدق على هذا الجُرم، وقد واجهوا امتحانات قاسية، وحملوا على عاتقهم مسؤولية نقل الحقيقة للعالم. وقيمة ما قاموا به، وعِظَم أثره، سيُدرك بشكل أفضل مع مرور الوقت.

قام معهد الجزيرة للإعلام، ومقره الدوحة عاصمة قطر، بجمع شهادات وتجارب 16 صحفيًا عاشوا بقلب نيران العدوان في غزة والضفة الغربية، ونشرها باللغتين العربية والتركية تحت عنوان "وحدنا غّّطينا الحرب". ولحسن الحظ، أُسندت إليّ مسؤولية كتابة مقدمة الطبعة التركية. وأشعر بامتنان كبير لكوني جزءًا من هذا العمل الهام، ولو كان كقطرة في محيط.

في هذه الشهادات المزلزلة، ستقرؤون الجانب الخفي واللحظات الحية لأحداث رأيتموها من قبل في وسائل الإعلام كأخبارٍ مجرّدة، وربما ستغمضون أعينكم أحياناً محاولين تخيل تلك المشاهد، أو تدمع عيونكم فتضطرون إلى التوقف عن القراءة، أو ربما تقبضون أيديكم غضباً من مرتكبي هذه الإبادة الجماعية.

لكن هذه النصوص لم تُكتب من أجل إثارة مشاعر القارئ أو اجتذاب التعاطف فقط. بل قبل كل شيء، تتجلى النقطة المحورية للدروس الأساسية التي يمكن استخلاصها من كل رواية، في كلمات الصحفية أمل حبيب حين قالت: "أليست الصحافة في جوهرها، شكلًا من أشكال المقاومة؟ تمرّدًا على إسكات الحقيقة، وإصرارًا على الشهادة حتى في وجه أهوال لا يمكن وصفها". نعم هذا هو الحال بالضبط. فكل نص من هذه النصوص هو ملحمة من ملاحم المقاومة والبقاء.

وتوجهنا الشهادات إلى نقطة أخرى وهي الأمل. ولنتعلم هذا من ابنتي "أمل حبيب" العزيزتين: "تنادي صغيرتاي مريم ومها، تريدان مني الحضور فورا إليهما، ماذا تفعلان هنا؟ من ركام غرفتهما صنعتا سورا لمدينة ألعابهما، تحاولان انتزاع الحياة من فكي الموت.." رغم كل ما كابده الفلسطينيون من آلام، ورغم المجازر والإبادة الجماعية، والدمار، والقصص المأساوية التي عاشوها، فإن الحفاظ على المقاومة والأمل، والقدرة على التطلع إلى المستقبل من قلب الركام تظلّ معجزة بحد ذاتها.

وهناك نقطة جوهرية ثالثة: توثيق كل شيء وتسجيله لمنع فقدان الذاكرة، ولضمان محاسبة الجناة في المستقبل. تمامًا كما عبّر عن ذلك الصحفي أنس الشريف بوضوح شديد، حين قال: قد يتساءل البعض لماذا أستمر في التغطية رغم أن شيئا لم يتغير ولم يُوقف هذا الدمار. جوابي بسيط: ربما يكون هناك مشهد أو حدث أو صورة مما وثّقته قادرة على إحداث الأثر المطلوب، لتصبح تلك اللحظة هي الشرارة التي تنهي هذه الحرب يوما ما." وحتى لو لم تشتعل الشرارة الآن، سنواصل الشهادة، وسنستمر في توثيق الحقيقة، وسنظل نطالب بمحاسبة مجرمي الحرب هؤلاء دون توقف.

أما السؤال الأكثر شيوعًا في تركيا، حين ينظر الناس من بعيد إلى غزة، فهو: "كيف يستطيع الفلسطينيون، رغم كل ما مروا به، أن يحافظوا على عزمهم في المقاومة، وعلى أملهم في المستقبل؟" في الحقيقة لو كنا نحن من يمرّ بكل ذلك، لانهار الكثير منّا منذ الأيام الأولى، أو في أول منعطف من الطريق.

يجب قراءة هذا الكتاب كإجابة شاملة على هذا السؤال بكل أبعاده وعمقه. كما يمكن اعتباره ـ عبر الشهادات التي يرويها ـ خارطة طريق متكاملة نحو حياة كريمة تليق بإنسان حر وشريف.


#المقاومة
#الشهادة
#الصحفيون
#غزة
#توثيق الأحداث
#الإبادة الجماعية
#معهد الجزيرة
#وحدنا غطينا الحرب