تشهد البنية الأسرية في تركيا تهديدات خطيرة باتت تثير قلقًا متزايدًا مع انعكاس التحولات الاجتماعية المتسارعة على الأرقام والإحصائيات. فتشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدلات الطلاق، وتزايد أعداد الأفراد الذين يعيشون بمفردهم، وارتفاع متوسط سن الزواج، واتجاه مجتمعنا نحو الشيخوخة، إلى جانب تراجع معدلات الخصوبة، التي باتت تحظى باهتمام بالغ في الآونة الأخيرة. ولا شك أن هذه المعدلات تمثل أعراضًا لتزعزع البنية الأسرية التي لطالما كانت مصدر فخر واعتزاز للمجتمع التركي، مما دفع رئاسة الجمهورية لإعلان العام الجاري "عام الأسرة"، ومن أبرز أهداف هذا الإعلان هو تحفيز المختصين على التفكير الجاد في قضايا الأسرة ورفع الوعي المجتمعي بها.
فالعلماء والجامعات والديموغرافيون والمتخصصون في الشريعة مطالبون اليوم بأن يتعاونوا في حملة وطنية بشكل جماعي أو فردي لتشخيص الوضع الراهن للأسرة، وتحديد مكامن الخلل إن وُجدت، والتفكير في سبل الإصلاح. غير أن الأمر لا يقتصر على جهود هؤلاء وحدهم، وإلا لكان الأمر سهلا، فالتحديات الأسرية التي نواجهها تتطلب تعبئة شاملة لجميع مؤسسات المجتمع وشرائحه.
وفي هذا السياق، نظمت نقابة "ديانت - سان" يوم الثلاثاء الماضي في أنقرة ورشة عمل حول الأسرة ليوم واحد بعنوان: "السياسات العالمية، والإعلام، والقانون، ومستقبل الأسرة". وقد أظهرت هذه الورشة إرادة حقيقية من جانب الجناح النقابي في المؤسسة الدينية لتحمّل المسؤولية والمساهمة الفاعلة في هذا الشأن. وقد شارك في الورشة رئيس اتحاد نقابات موظفي القطاع العام "ميمور-سن" علي يالشين، ورئيس نقابة "ديانت-سن" علي يلدز، إلى جانب الأستاذ الدكتور صفوت كوسى، المعروف بأبحاثه الطويلة في قضايا الأسرة، والذي قدّم المحاضرة الافتتاحية مستعرضًا أبعاد المشكلة من منظور إسلامي شامل. تلا ذلك حلقة نقاشية شارك فيها كل من أرغون يلدريم، وأمير كايا، ونائب رئيس الشؤون الدينية برهان إيشليان، وسبيل أرسلان. وفي الجلسة التالية، شارك محمد باقي أوزتورك، وجلال تورر، وأولفت جورجولو، وعدنان بولانت بال أوغلو، وشعبان كوندي، ومياسة يافوز آلتن تاش، وهوليا يلماز، وسامية قورقماز، الذين قدموا تحليلات معمقة للتحديات التي نواجهها في حياتنا الأسرية في ظل العولمة والتحولات المجتمعية والتشريعات القانونية.
إن الطرح الذي حاولت سيبال أرسلان بناءه حول عبارة "كان البيت موجودا أولًا"، والتي اختارها أرغون يلدرم عنوانا لكتابه، قد شكّل في الحقيقة أساسًا متينًا وتحذيرا مهمًا للأسرة المسلمة. وبحسب يلدرم، فإن "البيت" في القرآن الكريم لا يُشير فقط إلى أول بيت أُسِّس للناس في مكة، أي الكعبة بيت الله، بل يُمثل كذلك أمرًا إلهيًا يُؤكّد أن وجود الإنسان لا يكتمل إلا بالبيت، ومن ثمّ الأسرة، بوصفها ضرورة وجودية. وبالتالي فإن التحولات التي شهدتها الأسرة من شكلها البدائي إلى الأسرة الزراعية فالصناعية وصولاً إلى ما بعد الحديثة لا يمثل تطوراً مقبولاً أو قدراً محتوماً، بل هو انحراف عن المسار الصحيح.
ومن المؤكد أن جانبًا من التغير الذي تتعرض له الأسرة يرتبط بسياساتنا المحلية في هذا البلد، لكن جزءًا كبيرًا ومهمًا منه يتعلق بالتطورات العالمية. فعندما نراقب العولمة نجد أن العوامل التي تهدد الأسرة بشكل عام لا تؤثر على الأسرة التركية حدها، بل تمسّ المؤسسة الأسرية برمّتها على مستوى العالم. ففي دراسة اجتماعية أجريتها عام 2001 في الولايات المتحدة، لفت انتباهي بشدة الدوافع العميقة وراء التزام طائفة المورمون بحماس شديد بقيم الحياة الأسرية، وحرصت على توثيق دوافع هذا التعلّق حينها. ولكن حين عدت مؤخرًا لتحديث تلك الدراسة وجدت أن معدلات الطلاق وانخفاض الخصوبة لديهم لا تقل عما نواجهه، رغم وجود دوافع دينية قوية للغاية تشجع على الإنجاب لدى المورمون.
أما في تركيا فسبق أن ذكرنا أن للسياسات المحلية المتبعة، إلى جانب العوامل العالمية التي تؤثر سلبًا على الحياة الأسرية، آثارًا بالغة الخطورة. فالإفراط في توسع التعليم الجامعي والتعليم الإلزامي لمدة 12 عامًا يؤدي إلى تأخير انخراط الشباب في سوق العمل وتكوين أسرة إلى مراحل متقدمة في العمر، مما يترك أثرًا سلبيًا بالغًا على بنية الأسرة.
من جهة أخرى، من السهل أن نلاحظ أن السياسات التي وُضعت بدعوى "حماية المرأة" لم تُفلح في تحقيق هذا الهدف، بل أدّت إلى تقويض الأدوار الطبيعية للرجل والمرأة، ودَفعت الأفراد إلى سلوكيات غير متوقعة، وفتحت الباب على مصراعيه أمام تصاعد العنف. وهذه ليست قضية يمكن تحليلها وحلّها بنهج نسوي. فقد تراكمت لدينا خبرات واسعة تُظهر العواقب القانونية والاجتماعية الكارثية المترتبة على جعل "شهادة المرأة وحدها" أساسًا قانونيًا في ما يُسمّى بسياسات حماية المرأة.
كانت مداخلة الأستاذ الدكتور علي قرة حول "الاغتراب القانوني" الذي نعيشه – بدءًا من قانون الأحوال المدنية السويسري وانتهاءً باتفاقية إسطنبول – ذات أهمية بالغة. فقد قدّم تحليلاً نقديًا للوضع القانوني الراهن الذي جعل من مسألة الطلاق، بما يتضمنه من أحكام النفقة وظلم غير متكافئ بحق الرجل، جرحًا اجتماعيًا نازفًا. وأشار إلى أن أحد المبادئ القرآنية ـ الذي كنت أفكر فيه منذ مدة طويلة ـ يمكن أن يُسهم في تقديم حلول واقعية، وهذا المبدأ مستمد من الآية 35 من سورة النساء:
"وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا."
هذه الآية التي تدعو إلى تعيين حكمين من أهل الزوجين في حال تعرض الزواج لخطر التفكك، تؤكد أن الطلاق يجب أن يكون الحل الأخير بعد استنفاد سبل الصلح والتفاهم، وتحول دون اللجوء السريع إلى مراكز الشرطة إثر أي خلاف، مما يفتح بابًا لا رجعة فيه للكراهية والضغينة. غير أن الواقع اليوم مختلف؛ إذ بات من السهل الوصول إلى مرحلة "إبعاد الزوج"، دون أي اعتبار لاحتمال أن تكون المرأة نفسها قد مارست العنف أو وجهت اتهامات باطلة. في حين أن حكمين من كبار العائلة، ممن يعرفون الطرفين جيدًا، يمكنهم حل الخلافات بشكل أكثر إنسانية ومسؤولية ونفعًا للطرفين.
في الواقع، إضافة إلى كل ما ذكر فإن أول إجراء مؤسسي يجب اتخاذه لتعزيز الأسرة هو إعادة النظر في سياسات التعليم الجامعي، وتعزيز التعليم المهني بدلًا من التعليم الإلزامي لمدة 12 عامًا، وبالتالي خفض سن الانخراط بالعمل وتكوين أسرة، وزيادة التحفيز على الإنجاب.
وهنا يُطرح سؤال جوهري: ما الذي يمكن أن يحفزنا على بناء أسرة قوية؟ وما الذي سيدفعنا لتحمل مسؤولية هذه الأسرة، ورعايتها وخدمتها؟ إن كان دافعنا مجرد البحث عن "أسرة سعيدة" بمفهومها المادي الضيق فلا فائدة، فقد قوض علم الاجتماع هذا النموذج باللذة، والأنانية، وثقافة الترفيه والاستهلاك العالمية.
إن ما يدفع الغزّيين إلى الإنجاب بكثرة هو ذاته ما يجب أن يحفز المجتمعات المسلمة اليوم على التمسك بدوافع أقوى لتكوين أسر كبيرة وقوية، فليس هنالك حل آخر. وإذا كانت الأمة الإسلامية خاضعة للاحتلال فإن أول ما استهدف فيها هو الأسرة، وبالتالي يجب أن تبدأ المقاومة منها أيضا. إن مواجهة هذا الاحتلال تبدأ بأخذ زمام المبادرة في بناء أسرة قوية وواسعة، والاستعداد لتحمل المشقة والمعاناة في سبيلها، بل الرغبة في تلك المعاناة، والسعي إليها.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة