إن الكلمة التي ألقاها رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، بكل عنفوان وغطرسة، دفاعًا عن رؤساء البلديات الذين أُلقي القبض عليهم متلبسين بجريمة الرشوة، يجب أن تُسجل في تاريخ الخطاب السياسي التركي.
إن الموقف الذي يُنتظر من زعيم حزب سياسي إذا اعتقل أحد أعضاء حزبه بتهمة الرشوة والفساد هو أن يُعلن بوضوح: "من يفعل هذا لا يمكن أن يكون من حزبنا" وإن لم يدنه قبل صدور حكم قضائي، فعلى الأقل عليه أن يترك أمره للقضاء. بالطبع لا يجوز إصدار حكم مسبق على أي شخص حتى لو ضُبط متلبسًا بالجريمة. ولكن لا يجوز أيضًا تبرئته أو الدفاع عنه قبل المحاكمة، لا سيما إذا كان المتحدث رئيس أكبر حزب معارض يدّعي الجاهزية لتسلّم السلطة في البلاد.
أما الجانب الذي يستوجب أن تسجل كلمة أوزغور أوزَل في تاريخ الخطاب السياسي، فهو ما تضمّنته من نسب "البراءة المطلقة" لأعضاء حزبه، والدفاع العلني عنهم مهما ارتكبوا من أفعال، متّهمًا الشرطة والقضاء بالتسييس والانحياز. وهذا الموقف سيسبب لأوزَل الكثير من المتاعب. لكن هناك جانبًا آخر في خطابه لا يسبب له المتاعب فحسب، بل يقضي على كلِّ شرعيتِه ووجوده في الساحةِ الديمقراطية.
فبكل شراسة وعدوانية، يدعي أن حملات مكافحة الفساد والرشوة التي تُنفّذ بحق بلدياته قرارات تعسفية صادرة عن رئيس الجمهورية، ويلوح بتحريض الجماهير ضده. وفي خضم تهديده بأن التجمعات التي ينظّمها في ساحة "سراج هانه" منذ 19 مارس ما هي إلا "بروفات"، تجاوز كل الخطوط الحمراء، وخرج من فمه تصريح خطير مفاده:
"أنا أعلم متى أدعو الناس إلى الشارع فلا تدفعني إلى دعوة هذا الشعب للنزول. حينها ستشاهدون ما سيحدث كما شاهدتم ما جرى في ميدان مصر."
هل هذا هو الموقف الذي سيصدر عن حزب الشعب الجمهوري في مواجهة اتهامات الفساد والرشوة التي لم يعد من الممكن السكوت عليها بعد الآن دون خضوع جدي لمساءلة قضائية، في ظل ما كُشف من مقاطع مصوّرة، واعترافات، ووثائق؟ كيف انتشر الفساد إلى هذا الحد ليُصبح جزءًا من سلوك غالبية السياسيين المنتمين لحزب الشعب الجمهوري؟ وهل ما سيقدّمه الحزب لهذا البلد، في مواجهة حكومة تدير البلاد منذ 23 عامًا وأوصلتها إلى مستوى لا يمكن تجاهله، هو نموذج سياسي قائم على الفساد والرشوة؟ ما معنى التهديد والتلويح بميدان مصر بدلًا من مواجهة هذه الأسئلة؟
فلنتذكّر إذًا ما حدث في مصر
قبل اثني عشر عامًا من اليوم، وقع انقلاب عسكري في مصر على أول رئيس منتخب في تاريخها عبر انتخابات حقيقية، وقد خرجت الجماهير الرافضة للانقلاب، والمدافعة عن إرادتها وأصواتها، إلى ميدان "رابعة العدوية" لتُعبّر عن احتجاجها السلمي على مدبري الانقلاب. ورغم تمسّكهم بالموقف السلمي، وهو ما أكّده المرشد العام للإخوان المسلمين آنذاك محمد بديع بقوله: "سلميتنا أقوى من رصاصهم"، إلا أن الانقلابيين ردّوا بفتح النار على الجماهير المؤيدة للرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي لم يمضِ على انتخابه سوى عامٍ واحد، ما أسفر عن مقتل نحو ثلاثة آلاف شخص.
ما الدور الذي يرسمه أوزغور أوزال لنفسه في استحضاره ميدان مصر؟ هل يشبه نفسه بالانقلابيين الذين سلبوا السلطة المنتخبة من الشعب، وفي المقابل يرى أردوغان في دور مرسي الذي يمثل إرادة الشعب، الذي خرج إلى الميادين للدفاع عنه؟
إذا كنتَ تخوض نضالًا من أجل الديمقراطية، فإنّ آخر من ينبغي لك أن تُشبّه نفسك به، هم الانقلابيون في مصر. فأولئك هم من ارتكبوا المجازر، وسرقوا السلطة من رئيس منتخب، ومنذ استيلائهم على الحكم، وهم يديرون البلاد ضد إرادة الشعب، ويغرقونها في مزيد من الفقر.
قبل اثني عشر عامًا من اليوم، كانت حركة "تمرّد" التي نظّمها الانقلابيون في مصر بالتعاون مع جماعات البلطجية ضد حكومة مرسي تقتحم ميدان التحرير، الذي كان رمزًا للحرية. وفي التوقيت ذاته، كانت أحداث "جيزي" تُنظَّم في تركيا. لقد رأينا بأم أعيننا، ونحن نتابع الميدانين معاً، كيف أن كلا الحدثين نُفِّذا بنفس الأسلوب وباتجاه الهدف ذاته. لقد كان لكلا الحدثين غاية مشتركة في تلك الفترة. فقد كان يُعتقد أن رياح الديمقراطية في العالم العربي تهبّ إلى حد كبير من تركيا.
لقد كانت الديمقراطية تطورًا يهدد نظام كامب ديفيد الصهيوني في الشرق الأوسط. لذا كان لا بد من إيقاف رياح التغيير تلك في المناطق التي شهدت الربيع العربي عن طريق الانقلابات. ولكن كان لا بد لهذه الانقلابات أن تظهر بمظهر ديمقراطي إلى حد ما. وكان منح الشرعية للانقلابات أمرًا بالغ الأهمية في المراحل الأولى، في حين سيعمل النظام الاستبدادي المتجدد لاحقًا على تثبيت السيطرة وإخماد الحراك الشعبي. ولكن القضاء على الربيع العربي لم يكن كافيًا. وكان لا بد من إسقاط الحكومة المنتخبة في تركيا، التي كانت مصدر الإلهام له، وذلك عبر انقلاب يبدو وكأنه حركة شعبية ديمقراطية.
الجذور الاستعمارية للفساد كنهج سياسي
لقد فعلوا ما أرادوا فعله في مصر، ثم في ليبيا، واليمن، وسوريا، وأخيرًا في تونس. وهكذا، أُعيد تأسيس نظام الاحتلال الذي فُرض على أراضي الدولة العثمانية منذ مئة وخمسين عامًا، والذي كان على وشك الانهيار تحت وطأة تهديد "الربيع العربي". ويمكننا اليوم إدراك حجم الكارثة التي حلّت بالعالم الإسلامي من خلال النظر إلى أحوال هذه البلدان. وكانت تركيا الدولة الوحيدة التي لم يستطيعوا تنفيذ مخططاتهم فيها، وهذا ما ظلّ يؤرقهم. فبعد أحداث "جيزي " عام 2013، حاولوا تكرار المحاولة عبر محاولات انقلاب 17-25 ديسمبر، ثم في انتخابات 2015 التي تم تمويل تحالفاتها من قبل جهات خارجية، وأخيرًا عبر محاولة انقلاب عسكري مباشر في 15 يوليو/تموز 2016. لكنهم في هذه المرة وجدوا أمامهم شعبًا متمسكًا بدولته واستقلاله، وربما بذلك أيقظوا هذا الشعب، وفتحوا أمامه أفقًا واسعًا في مسيرته نحو أن يصبح أمة حقيقية.
واليوم من خلال ردود الفعل التي يبديها حزب الشعب الجمهوري تجاه اتهامات الفساد الموجهة إلى بلدياته، دون حتى انتظار حكم القضاء، يُظهر هؤلاء بوضوح أن هذا المستوى من الفساد لا يمكن أن يصدر إلا عن عقلية احتلالية دخيلة على هذا الشعب. فحتى الفساد له حدود، أما أن يتحول إلى نزعة شاملة ومنهج متجذّر، فهذا لا يكون إلا بدافع عدائي تجاه شعب تخوض معه حربًا. فعندما لا يُنظر إلى الإدارة بوصفها أمانة بل كغنيمة، تصبح هذه الدرجة من الفساد والانتهاك أمرًا متوقعًا.
وليس من قبيل المصادفة أن إمام أوغلو وأوزغور أوزال، اللذين يدعيان خوض حزبهم نضالًا ديمقراطيًا منذ مئة وخمسين عامًا، يشيران إلى تاريخ الانقلابيين كمرجع لهما. هذا هو التاريخ الذي يناسبهم. والمطالب التي يناضلون من أجلها هي نفسها التي مزقت دولتنا الكبرى (الدولة العثمانية)، وسلمتها للعدو، وجعلت الدولة الجديدة التي تأسست بعد ذلك غنيمة.
إن كل هذا الصراخ والضجيج الصادر عنهم هو رد فعل على تذكيرهم بأن الدولة ليست غنيمة لهم.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة