
منظمة الدول التركية باتت في السنوات الأخيرة لاعبًا مهمًا في منطقة أوراسيا والعالم التركي.
تشهد الساحة الإقليمية والدولية بروز تكتلات جديدة تعمل على إعادة تشكيل موازين القوة الجغرافية-السياسية، من بينها منظمة الدول التركية التي باتت في السنوات الأخيرة لاعبًا مهمًا في منطقة أوراسيا والعالم التركي. فالمنظمة، التي تجمع الدول الناطقة بالتركية وتلك التي ترتبط بجذور تاريخية وثقافية مشتركة، تسعى إلى بناء إطار مؤسسي يرسّخ التعاون بين دولها في السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة والتعليم، وصولًا إلى تكامل اقتصادي واستراتيجي يعزز حضورها الإقليمي.
نشأة المنظمة وتطورها المؤسسي
تأسست منظمة الدول التركية عام 2009 تحت اسم مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية بمبادرة من تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان، قبل أن تنضم أوزبكستان لاحقًا وتتحول عام 2021 إلى الاسم الحالي. وقد جاء هذا التطور نتيجة حاجة ملحّة إلى مظلة تجمع دول العالم التركي بعد عقود من تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث وجدت الدول المستقلة حديثًا نفسها تبحث عن مسارات لتعزيز هويتها المشتركة، وتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية بعيدًا عن الاعتماد على القوى الكبرى.
وترى العديد من التحليلات أن التحول إلى “منظمة الدول التركية” يعكس طموحًا سياسيًا متزايدًا بأن يكون هذا الكيان منصة للتنسيق العابر للحدود، ومركزًا للتكامل الاقتصادي بين دول تمتلك موارد ضخمة، وموقعًا استراتيجيًا بين آسيا وأوروبا، وقدرات بشرية تتجاوز 300 مليون نسمة.
عضوية واسعة وقاعدة سكانية ضخمة
تضم المنظمة اليوم خمس دول أعضاء كاملة: تركيا، أذربيجان، كازاخستان، قيرغيزستان، وأوزبكستان. وإلى جانبها توجد ثلاث دول تحمل صفة "مراقب": المجر، تركمانستان، والجمهورية التركية لشمال قبرص. هذا المزيج من الدول يخلق كتلة بشرية تزيد عن 300 مليون نسمة، موزّعة على مساحة جغرافية هائلة تمتد من الأناضول وحتى الحدود الغربية للصين.
تمثل هذه الدول خزّانًا من الموارد الطبيعية والقدرات اللوجستية والممرات التجارية الحيوية، فضلًا عن الإرث التاريخي والثقافي المشترك، وهو ما يمنح المنظمة وزنًا استراتيجيًا متصاعدًا في الملفات الإقليمية.
التعاون السياسي وملامح التوجه الخارجي
تسعى المنظمة إلى تنسيق مواقف دولها في السياسة الخارجية، خاصة ما يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي، واستقرار آسيا الوسطى، والطاقة، والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين.
وتعتمد الدول الأعضاء على ما يسمى بـ"الهوية التركية المشتركة" كأداة soft power، يتم من خلالها تعزيز الروابط بين الشعوب والمؤسسات، وتسهيل التنسيق بين الحكومات.
وقد برز هذا التعاون بشكل خاص خلال الأزمات الإقليمية، مثل دعم أذربيجان خلال حرب كاراباخ، وكذلك تعزيز التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب والتطرف، وتطوير آليات مشتركة لتبادل المعلومات الاستخباراتية.
الأهداف الاستراتيجية: من السياسة إلى الدفاع
تعتمد المنظمة مجموعة واسعة من الأهداف التي تشكّل أساس عملها الاستراتيجي، وتشمل:
● تطوير العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الدول الأعضاء، وتوحيد المواقف تجاه القضايا الإقليمية.
● تعزيز قدرات الدفاع المشترك من خلال إجراء مناورات عسكرية، وتبادل الخبرات بين الجيوش، وتطوير الصناعات الدفاعية المشتركة.
● تطوير البنية التحتية الإقليمية عبر ممرات النقل والسكك الحديدية وخطوط الطاقة العابرة للقارات.
● رفع مستوى التعاون الثقافي والتعليمي من خلال منح دراسية مشتركة، وبرامج تعليمية، ومشاريع إعلامية تعزز الهوية التركية المشتركة.
● التطوير الاقتصادي عبر مشاريع الطاقة والزراعة والصناعة والتحول الرقمي.
وترى الدول الأعضاء أن تعزيز قدراتها الدفاعية جزء من حماية مصالحها في منطقة أوراسيا، التي تعد واحدة من أكثر مناطق العالم صراعًا وتنافسًا بين القوى الكبرى.
التبادل التجاري ومشاريع الاقتصاد المشترك
يبلغ حجم التبادل التجاري بين دول المنظمة نحو 7 مليارات دولار سنويًا، وهو رقم يُعد متواضعًا قياسًا بإمكانات هذه الدول. لذلك تعمل المنظمة على مشاريع من شأنها مضاعفة التبادل التجاري، منها:
● إنشاء مناطق اقتصادية خاصة مشتركة لتسهيل حركة الشركات والاستثمارات.
● إطلاق بنك للتنمية وصندوق استثماري مخصص لدعم المشاريع الاستراتيجية.
● إنشاء شبكات نقل حديثة تربط آسيا الوسطى بتركيا وأوروبا عبر الممر الأوسط، بما يعزز تجارتها العالمية.
● الاستثمار في الطاقة المتجددة والموارد الطبيعية، خاصة الغاز والمعادن.
تمتلك دول مثل كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان ثروات هائلة من الغاز والمعادن، بينما تمتلك تركيا موقعًا لوجستيًا استراتيجيًا، وأذربيجان بنية تحتية قوية للطاقة، وهو ما يجعل فرص التكامل الاقتصادي كبيرة ومؤثرة.
كيانات ومؤسسات تدفع العمل المشترك
تعمل المنظمة عبر مجموعة من المؤسسات والهيئات التابعة، التي تساهم في تحويل التعاون من مستوى الخطاب السياسي إلى مستوى العمل التنفيذي. ومن أبرز هذه المؤسسات:
● جمعية البرلمانات التركية
● مجلس العمل التركي
● منظمة الثقافة التركية (TÜRKSOY)
● اتحاد الغرف والبورصات التركية
● مجلس الشباب والرياضة
● هيئات التعليم والإعلام والتقنية
تعقد هذه المؤسسات عشرات الاجتماعات سنويًا على مستوى القادة والوزراء والخبراء، لتنسيق السياسات وإطلاق مبادرات مشتركة، وتطوير برامج تعليمية وثقافية تعزز الهوية التركية العابرة للحدود.
رؤية مستقبلية أكثر حضورًا في أوراسيا
تطمح منظمة الدول التركية أن تتحول خلال العقد المقبل إلى قوة إقليمية مؤثرة في ملفات الطاقة والأمن والتجارة. فالمشاريع الضخمة الجاري تنفيذها، مثل الممر الأوسط للنقل، وخطط الربط الكهربائي، والمنظومات الدفاعية المشتركة، تمثل خطوات عملية لوضع المنظمة كلاعب مركزي في المنطقة.
كما يعزز تنامي دور تركيا السياسي والعسكري، وعودة آسيا الوسطى إلى واجهة الاهتمام العالمي، فرص المنظمة للتحول إلى قوة تجمع بين العمق الثقافي والامتداد الجغرافي والموارد الاقتصادية الكبيرة.






