
- واشنطن فرضت عقوبات بحق المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز بعد أيام من إعلانها عن تقرير يوثق تورط شركات أمريكية وأوروبية مع إسرائيل في إبادة قطاع غزة - ألبانيز وصفت العقوبات بأنها من أساليب "الترهيب مافياوية" وقالت إنها "منشغلة بتذكير الدول الأعضاء (في الأمم المتحدة) بالتزاماتها بوقف ومعاقبة الإبادة الجماعية، ومَن يستفيد منها" - المحامي الدولي عبد المجيد مراري: واشتطن تعاقب ألبانيز لأنها أعطت توصيفا حقيقيا لما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية وجريمة حرب وكشفت تورط دول وشركات وطالبت بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم - عضو الحزب الديمقراطي الأمريكي مهدي عفيفي: ألبانيز وثّقت جرائم تعاون الشركات مع إسرائيل وواشنطن عاقبتها في إطار دعم إسرائيل وتغطية جرائمها وهذا لا يتفق مع القانون الدولي ولا حقوق الإنسان - أستاذ القانون الدولي بجامعة القدس أمجد شهاب: العقوبات سببها تقرير ألبانيز عن الشركات ومواقفها الرافضة لإبادة غزة، والعقوبات ضد المنطق والقانون والعدالة والمعاهدات والمواثيق الدولية.
من حين إلى آخر، تدفع أسباب عديدة الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض عقوبات على شخصية تعمل في إحدى المؤسسات الدولية.
هذه الأسباب الممكنة كلها يبدو أنها اجتمعت في الإيطالية فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في فلسطين.
فيبدو أن ألبانيز "لمست عصبا حساسا لديهم"، إذ تتسم بالشجاعة والمثابرة والتأثير، وتجاوزت "الخط الأحمر" بفضحها "مافيا الإبادة" والشركات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية المتورطة فيها مع تل أبيب، حسب حديث خبراء للأناضول.
لذلك قبل أيام أدرجت واشنطن ألبانيز على قائمة العقوبات الأمريكية؛ على خلفية "جهودها غير المشروعة والمخزية لدفع المحكمة الجنائية الدولية إلى اتخاذ إجراءات ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أمريكيين وإسرائيليين".
وخلفت الإبادة الإسرائيلية في غزة المدعومة أمريكيا أكثر من 197 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم عشرات الأطفال.
** تقرير مزعج
في أكثر من مناسبة وبشكل صريح، وصفت ألبانيز المقررة الأممية منذ عام 2022 جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأنها "إبادة جماعية".
وقالت لإذاعة "RNE" الإسبانية الرسمية، في أبريل/ نيسان الماضي، إن القانون الدولي يحظر ما تقوم به إسرائيل في غزة، فهذه "ليست حربا، إنما إبادة جماعية".
وفي 3 يوليو/ تموز الجاري، شبّهت ما ترتكبه إسرائيل في فلسطين بأهوال "يوم القيامة"، وحمّلتها المسؤولية عن "إحدى أقسى جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث".
وخلال اجتماع في مجلس حقوق الإنسان الأممي، عرضت ألبانيز تقريرا شكل صدمة عالمية بحسب مراقبين، وجاء بعنوان بـ"من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية".
وتتهم ألبانيز في التقرير أكثر من 60 شركة عالمية، بينها شركات أسلحة وتكنولوجيا أمريكية وأوروبية وكورية، بدعم الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة والمستوطنات بالضفة الغربية المحتلة.
وبالأرقام والأسماء، فصّل التقرير كيف تحولت البنية الاقتصادية لإسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، إلى منظومة ربحية تعتمد على التهجير والتدمير والقمع، بغطاء تقني وتمويلي دولي.
وأفادت بأنها تلقت أكثر من 200 بلاغ موثق بأن ما يزيد على 1000 شركة متورطة مباشرة في دعم الاحتلال والاستيطان، فضلا عن الإبادة الجماعية المتواصلة بغزة.
التقرير كشف أن شركات، مثل غوغل وأمازون ومايكروسوفت، وفّرت أدوات متقدمة لإدارة البيانات والاستهداف والمراقبة، رغم اتهام إسرائيل بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
وفي 2021، حصلت غوغل وأمازون على عقد بقيمة 1.2 مليار دولار، لتوفير بنية تحتية سحابية وتعلم آلي للحكومة الإسرائيلية.
كما تدير مايكروسوفت في إسرائيل، حسب ألبانيز، أكبر مركز أبحاث لها خارج الولايات المتحدة، وتدمج تقنياتها المدنية في الجيش منذ 2003، وتستحوذ على شركات إسرائيلية في الأمن السيبراني.
وسلط التقرير الضوء على دور شركة بالانتير الأمريكية، التي زوّدت إسرائيل بأدوات تنبؤ أمني وبنية تحتية لتسريع تطوير ونشر البرامج العسكرية.
وزاد أن تعاون بالانتير مع إسرائيل يعود لسنوات، لكنه تصاعد بعد بداية حرب الإبادة في 7 أكتوبر 2023، مؤكدا أن استمرار دعمها لتل أبيب رغم الأدلة على انتهاكات محتملة "يرتقي إلى تواطؤ في جرائم دولية".
كما استفادت إسرائيل من مشاركتها في برنامج مقاتلات "إف-35"، الذي تقوده شركة لوكهيد مارتن الأمريكية بالشراكة مع 1650 شركة من 8 دول، بينها ليوناردو الإيطالية، وفق التقرير.
وتساهم تلك الشركات، حسب التقرير، في إنتاج مكونات طائرات "إف-35" الإسرائيلية، التي أصبحت بعد أكتوبر 2023 محور العمليات الجوية، وأسهمت في إسقاط نحو 85 ألف طن من القنابل.
التقرير كشف كذلك تورط شركات مثل آي بي إم (IBM)، إتش بي (HP)، وإن إس أو (NSO) في تطوير أنظمة مراقبة بيومترية وتجسس، ساهمت في فرض رقابة مشددة على الفلسطينيين وتكريس نظام الفصل العنصري.
كما زودت شركة كاتربيلار الأمريكية إسرائيل بجرافات "D9" العسكرية التي تستخدم منذ 2000 في الهدم واقتحام المستشفيات الفلسطينية، وحتى دفن جرحى أحياء، لتحصل الشركة على عقد جديد بملايين الدولارات في 2025، وفق التقرير.
التقرير زاد أن شركات فولفو السويدية وهيونداي ودوسان الكورية واصلت تزويد إسرائيل بمعدات ثقيلة استخدمت في تدمير غزة.
وجراء ذلك تضرر أكثر من 70 بالمئة من أبنية قطاع غزة و95 بالمئة من أراضيها الزراعية بعد أكتوبر 2023، حسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).
** "ترهيب مافياوي"
بعد أقل من أسبوع على التقرير، أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، في 9 يوليو/ تموز الجاري، إدراج ألبانيز على قائمة العقوبات الأمريكية.
وتتضمن العقوبات فرض قيود على السفر، وتجميد أي أصول محتملة في الولايات المتحدة.
روبيو أرجع ذلك إلى ما ادعى أنها "جهودها غير المشروعة والمخزية لدفع (المحكمة الجنائية الدولية) إلى اتخاذ إجراءات ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أمريكيين وإسرائيليين".
وهدد بأن واشنطن "ستواصل اتخاذ أي خطوات تراها ضرورية"، و"سنقف دائما مع حق شركائنا (إسرائيل) في الدفاع عن النفس"، على حد زعمه.
غداة العقوبات، قالت ألبانيز عبر منصة إكس: "لا تعليق على أساليب الترهيب المافياوية. أنا منشغلة بتذكير الدول الأعضاء (في الأمم المتحدة) بالتزاماتها بوقف ومعاقبة الإبادة الجماعية، ومَن يستفيد منها".
** لماذا ألبانيز؟
هذه العقوبات المفاجئة دفعت مئات الآلاف حول العالم للتضامن مع ألبانيز والسؤال عن أسباب هذا الاستهداف الأمريكي الحاد.
فكتب الإعلامي الاستقصائي المصري يسري فودة عبر حسابه "فيسبوك": "وسط ملايين الأصوات الناقدة والغاضبة أمام ما يحدث في غزة حول العالم، ما الذي يجعلهم يختارون فلانًا أو فلانة كي يسبغوا عليه أو عليها هذا (الشرف)؟".
وأرجع فودة ذلك إلى أن ألبانيز تتوفر فيها مواصفات "فهم جوهر اللعبة الدولية، والإلمام بالتفاصيل، وشجاعة تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية".
وكذلك "التواجد في موقع يسمح له بالتأثير، والمثابرة في إيصال الرسالة"، إضافة إلى "قدرة متميزة على الاستقصاء والربط والتبسيط"، حسب فودة.
لكنه أرجع السبب الرئيسي للعقوبات إلى "التقرير الأخير الذي رفعته ألبانيز إلى الأمم المتحدة"، الذي فضحت فيه "الشركات الأمريكية والأوروبية التي تنتفع من وراء إبادة غزة".
وتابع: "سمّتها (الشركات) وأفصحت عن أنشطتها، من شركات أسلحة إلى شركات بلدوزرات ومعدات ثقيلة إلى شركات تقنية إلى مصارف وشركات مالية وصناديق استثمارات".
وجاء "تحرك ترامب ضد محامية حقوق إنسان لا تملك إلا شرفها لأنها دعت محكمة الجرائم الدولية في نهاية تقريرها للتصدي لتلك الشركات ولمدرائها التنفيذيين وللمسؤولين في الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية"، وفق فودة.
وأردف: و"كأنها وضعت يدها في عش الدبابير. أو لمست عصبًا حسّاسًا لديهم".
** ترهيب للأمم المتحدة
من جانبه، قال الحقوقي الدولي محامي قضايا الفلسطينيين في المحكمة الجنائية الدولية عبد المجيد مراري إن "تلك العقوبات الأمريكية غير المسبوقة جاءت لأنها (ألبانيز) لمست الواقع الحقيقي".
وأضاف للأناضول أنها "أعطت التوصيف الحقيقي لما يحدث في قطاع غزة، وأنه جريمة إبادة جماعية وجريمة حرب، وكشفت تورط دول وشركات في الجريمة، وطالبت بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم".
فقد عوقبت "لأنها قامت بدورها بالشكل الذي ينبغي وكشفت مافيا إبادة الفلسطينيين في غزة"، حسب مراري.
ولفت إلى أن ألبانيز "أول مقررة أممية تواجه تلك العقوبات".
وأكد أن "هذا اعتداء صارخ على استقلالية ونزاهة آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وترهيب وتخويف للمقررين الخاصين بالأمم المتحدة، ويجب إلغاء هذه العقوبات فورا".
** تغطية على الجرائم
"عقاب المسؤولة الأممية جاء بسبب توثيقها جرائم تعاون الشركات مع إسرائيل".. هكذا بدأ عضو الحزب الديمقراطي الأمريكي المحلل السياسي الدكتور مهدي عفيفي حديثه للأناضول.
وأضاف عفيفي أن ما فعلته ألبانيز "لم يعجب الإدارة الأمريكية حليفة إسرائيل، فقررت معاقبتها، كما عاقبت قضاة المحكمة الجنائية الدولية من قبل".
وتابع: "كل مَن يعترض على جرائم إسرائيل، سيكون في نظر إدارة ترامب مهدد بالعقوبات، سواء كان قاضيا بالجنائية الدولية أو مسؤولا أمميا".
وتلك الخطوة تأتي في "إطار دعم إسرائيل وتغطية جرائمها، بل وتخطى ذلك بالمشاركة معها بكل الطرق المتاحة أمنيا أو عسكريا أو استخباراتيا"، وفق عفيفي.
وأكد أن "ما تفعله الولايات المتحدة مع إسرائيل لا يتفق مع القانون الدولي ولا حقوق الإنسان، وبات وكأنه منطقة ممنوع أو محرم الحديث عنها، في ظل عدم اعتراض دولي حقيقي".
** خط أحمر
متفقا معهما قال أستاذ القانون الدولي بجامعة القدس بفلسطين الدكتور أمجد شهاب إن هذه العقوبات جاءت نتيجة تقرير ألبانيز بخصوص الشركات الأمريكية والأوروبية ومواقفها الرافضة لإبادة غزة.
واعتبر شهاب في حديث للأناضول أن العقوبات "إشارة سياسية لمحاولة إسكات أي صوت يكشف جرائم إسرائيل وينتقد المجازر التي ترتكب في قطاع غزة، لأن هذا خط أحمر لا يجب انتقاده".
و"هذا ضد المنطق والقانون والعدالة والمعاهدات والمواثيق الدولية"، كما ختم شهاب.