
المسن الفلسطيني مجدي محيسن: - نخاطر بالعيش هنا لعدم وجود مكان آخر يحتوينا - نتحرك بحذر شديد وبتنا نحصل على أساسيات الحياة بصعوبة فائقة
عند أطراف "الخط الأصفر" الذي حدده الجيش الإسرائيلي بمكعبات إسمنتية لتقسيم قطاع غزة وخنق ما تبقى من حياة فيه، يعيش الفلسطيني المسن مجدي محيسن وأسرته وسط دمار شامل وانعدام تام للخدمات الأساسية.
فلا ماء ولا غذاء ولا مأوى، سوى بقايا منزل مدمر يصر محيسن، وهو في الستينات من العمر، على البقاء فيه رغم اقتراب الخطر، بعدما وضعت القوات الإسرائيلية مكعباتها الخرسانية الصفراء على بعد أمتار قليلة منه، لتفصل المنطقة وتحكم السيطرة على الجزء الشرقي من القطاع.
وفي هذا المكان الذي تحول لمنطقة عازلة محفوفة بالموت، لا تزال أصوات القصف الإسرائيلي، وأنقاض البيوت، وغياب المساعدات، تشكل المشهد اليومي، رغم توقف القتال.
ومع ذلك، لم يتوقف الخطر، إذ رصد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة 194 خرقا للاتفاق من جانب الجيش الإسرائيلي، ما أبقى حياة المواطنين تحت تهديد دائم.
يقول محيسن إنه فوجئ خلال الأيام الماضية بتقدم القوات الإسرائيلية ونصب مكعبات "صفراء" جديدة على مقربة من ركام منزله، في مشهد وصفه بأنه "مفزع".
"الخط الأصفر"
ومنذ 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدأت إسرائيل بوضع مكعبات إسمنتية صفراء على طول ما يعرف بـ"الخط الأصفر"، وهو خط انسحابها الأول من مناطق داخل غزة عقب اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر.
ويفصل الخط بين مناطق انتشار الجيش شرقا والمناطق التي يسمح للفلسطينيين بالتحرك فيها غربا.
ويشير محيسن إلى أن الجيش الإسرائيلي وضع، الجمعة، مكعبات إسمنتية جديدة في منطقة قريبة من التجمعات السكنية، متجاوزا "الخط الأصفر" في ما يبدو أنه توسيع لحدوده.
وفي 28 أكتوبر الماضي، ذكرت هيئة البث العبرية أن إسرائيل قررت توسيع مناطق سيطرتها إلى ما بعد الخط، بينما قال مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة للأناضول إن هذه الخطوات "أحادية" وتعد خرقا لاتفاق وقف النار.
عزلة وخدمات متوقفة
وتسببت هذه التطورات في تفاقم العزلة، إذ يخرج محيسن يوميا من بين الأنقاض حاملا جالونين فارغين للبحث عن المياه، بينما تسمع أصوات قصف مدفعي من مناطق تمركز الجيش.
ومع توقف صهاريج المياه ومبادرات توزيع الغذاء عن الوصول خشية الاستهداف، بات محيسن مضطرا لقطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام لتأمين حاجاته الأساسية.
وبرغم ما يشعر به من قهر وألم، لا يغفل الرجل المسن عن الحذر خلال تحركه في المنطقة المحاذية تماما للمكعبات الصفراء، محاولا استجماع ما تبقى من قوته للوصول إلى مصدر مياه يبعد نحو ساعة مشيا على الأقدام.
ولا تقتصر معاناته على العطش فقط، بل تتقاطع مع مشهد واسع من الدمار؛ فالمنطقة التي يعيش فيها تعرضت خلال أشهر الحرب إلى ما وصفته تقارير حقوقية بـ"إبادة مدن"، بعدما حولها الجيش الإسرائيلي إلى تلال من الركام.
ومع انعدام مقومات الحياة وتدمير شبكات المياه والصرف الصحي، فضل كثير من الفلسطينيين البقاء فوق أنقاض منازلهم على العيش في خيام قماشية لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف.
ويشير محيسن إلى أن الوضع لم يكن بهذه القسوة قبل فترة قصيرة؛ إذ كانت شاحنات تعبئة المياه و"التكايا" الخيرية تصل إلى المنطقة بشكل شبه منتظم، قبل أن يتغير المشهد تماما مع نصب إسرائيل المكعبات الصفراء بالقرب من المنازل.
ويضيف أن الفلسطينيين باتوا يتجنبون التقدم نحو هذه المناطق خوفا من استهداف مباغت.
ومنذ سريان الاتفاق، أكدت معطيات حكومية وصحية أن الجيش الإسرائيلي استهدف فلسطينيين كانوا يتحركون في مناطق قريبة من الخط الأصفر ودون أن يتجاوزه.
اقتراب خطير
ويكشف محيسن أن الوضع ازداد سوءا ظهر الجمعة، حين فوجئ المواطنون بتقدم قوات إسرائيلية ونصبها المكعبات الصفراء على بعد 50–70 مترا فقط من منازلهم.
ويقول: "وضعوا المكعبات الصفراء، ووضعونا تحت الخطر، ولم يبق بيننا وبينهم إلا عدة أمتار"، معربا عن خشيته من تقدم جديد قد يبتلع ما تبقى من بيته.
وشملت مناطق الانسحاب الإسرائيلي بموجب الاتفاق، مدينة غزة (شمال) باستثناء حي الشجاعية (شرق المدينة)، وأجزاء من حيي التفاح (شرق) والزيتون (جنوب شرق).
وفي مدينة خان يونس (جنوب)، انسحب الجيش الإسرائيلي من مناطق الوسط وأجزاء من الشرق، فيما منع دخول الفلسطينيين إلى بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا (شمال)، ومدينة رفح (جنوب)، وساحل القطاع.
الحياة مجازفة
ورغم توقف الحرب، تبقى الحياة في هذه المناطق "مغامرة يومية"، على حد وصف محيسن، إذ ترفض عائلته مغادرة منزلها الملاصق للمنطقة الصفراء لغياب أي بدائل للسكن.
وقال بهذا الصدد: "نحن اليوم مخاطرين (بحياتنا)، فلا مكان يحتوينا إلا هذا المكان (...) وكل يوم الخطر يقترب منا".
ويوضح أنهم أصبحوا يتحركون في هذه المنطقة بحذر شديد خشية استهدافهم من الجيش الإسرائيلي المتواجد شرق هذه المكعبات الصفراء.
ويضيف: "أصبحنا نخاف التحرك في المنطقة، ونخاف على أولادنا، ونخشى الخروج ليلا".
ولا تقف المعاناة عند حدود الخوف فقط، فأنقاض منزل محيسن ما زالت تضم رفات 13 من أفراد عائلته، بينهم نجله واثنان من أشقائه وأطفالهم، قضوا جراء قصف إسرائيلي خلال الحرب.
ويطالب محيسن بإزالة هذه المكعبات الإسمنتية التي وصفها بـ"النكبة" الجديدة التي تصيب الشعب الفلسطيني، بعد النكبة التي أصابتهم عام 1948 حينما أعلن قيام إسرائيل على أراضيهم.
ويأمل المسن الفلسطيني أن يعيش بحرية حتى فوق ركام بيته.
وأنهى الاتفاق عامين من حرب الإبادة الجماعية التي بدأتها إسرائيل في 8 أكتوبر 2023، بدعم أمريكي، وخلفت أكثر من 68 ألف قتيل وما يزيد عن 170 ألف جريح، وألحقت دمارا طال 90 بالمئة من البنى التحتية المدنية.
لكن رغم الاتفاق، وثقت وزارة الصحة في غزة 236 قتيلا و600 مصاب نتيجة عشرات الخروقات الإسرائيلية المستمرة.






