الأيام الخوالي

08:116/11/2025, Perşembe
تحديث: 6/11/2025, Perşembe
طه كلينتش

في إحدى رحلتنا من شكودرا إلى بريزرن كنا نتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء، ونستمتع بمشهدٍ طبيعي أخّاذ طوال طريقنا تتخلله وديان عميقة وأنهار وجبال شامخة. وحين وصلنا أخيرًا إلى مدينة كوكس، القريبة جدًا من الحدود الألبانية الكوسوفية، فوجئنا بمشهد غير متوقّع؛ في هذه البلدة النائية التي لا يتجاوز عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة، كان هناك مطار دولي. وقد روى لنا أصدقاؤنا الألبان قصّته: أنشئ المطار لأول مرة عام 1929، ومع مرور الوقت بدأ يُستخدم لأغراض عسكرية. وخلال حكم أنور خوجة الاستبدادي الممتد من عام 1941 حتى

في إحدى رحلتنا من شكودرا إلى بريزرن كنا نتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء، ونستمتع بمشهدٍ طبيعي أخّاذ طوال طريقنا تتخلله وديان عميقة وأنهار وجبال شامخة. وحين وصلنا أخيرًا إلى مدينة كوكس، القريبة جدًا من الحدود الألبانية الكوسوفية، فوجئنا بمشهد غير متوقّع؛ في هذه البلدة النائية التي لا يتجاوز عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة، كان هناك مطار دولي. وقد روى لنا أصدقاؤنا الألبان قصّته:

أنشئ المطار لأول مرة عام 1929، ومع مرور الوقت بدأ يُستخدم لأغراض عسكرية. وخلال حكم أنور خوجة الاستبدادي الممتد من عام 1941 حتى 1985، وُضع المطار بالكامل تحت تصرّف النظام. وبعد ذلك ظلّ مهملًا طيلة تسعينيات القرن الماضي. وعندما اضطرت كوكس أثناء حرب كوسوفو (1998-1999) لاستقبال عشرات الآلاف من اللاجئين، تحوّل المطار إلى مركز لتنسيق المساعدات الأجنبية. وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة صاحبة النصيب الأكبر من تلك المساعدات؛ إذ وقّعت عام 2001 مذكرة تفاهم مع الحكومة الألبانية لتحديث المطار وجعله مؤهّلًا للرحلات الدولية. وخلال الحرب وبعدها، نفّذت الطائرات الإماراتية عشرات الرحلات إلى كوكِس محمّلةً بالمساعدات الأساسية لإغاثة المتضررين من كوسوفو. وفي عام 2021، أصدر رئيس الوزراء الألباني إدي راما مرسومًا بتغيير اسم المطار إلى مطار كوكس زايد الدولي، تيمنًا بمؤسّس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (1918-2004).

حين سمعت هذه القصة لأول مرة، أصابني ذهولٌ عميق. وربما تشعرون بالدهشة الآن وأنتم تقرأون هذا الكلام. فحين ننظر اليوم إلى الدور التخريبي الذي تلعبه الإمارات في العالم الإسلامي، وخاصة في السودان لا يسعنا إلا أن نتفاجأ، فأنّى للعقل أن يتقبّل أن الإمارات التي كانت بالأمس القريب في صفّ المظلومين في واحدة من أكثر حروب البلقان مأساوية، وبذلت كل ما في وسعها لمداواة جراحهم، هي نفسها التي تلعب اليوم دور المموّل للحروب والدمار في السودان واليمن وليبيا وإثيوبيا والعديد من البلاد؟

لا شك أن "الاستثمار الإنساني" لدولة الإمارات العربية المتحدة في ألبانيا كان له أهداف سياسية، وهذا ليس مفاجئًا، فالدول في نهاية المطاف تتحرك وفق ما تقتضيه مصالحها الخاصة. بل يمكن النظر إلى التقارب الإماراتي الألباني آنذاك بوصفه جزءًا من عملية موجّهة من الولايات المتحد، هدفها الحدّ من التمدد الروسي في البلقان عبر النفوذ الصربي، ولا ضير في هذا. فبغض النظر عن الغرض والخلفية لا يمكن إنكار البعد الإنساني والوجداني للدور الذي أدّته الإمارات آنذاك.

منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى أوائل الألفية الثانية، كانت الإمارات تسير عمومًا ضمن الأطر الأساسية للسياسة الخليجية.وكان لنهج الشيخ زايد، مؤسس الدولة، تأثير كبير في ترسيخ هذا التوجه. ورغم وقوع بعض الخلافات أحيانًا مع قطر، إلا أنّ التوترات لم تصل أبدًا إلى مستوى العداء. فعلى سبيل المثال، كان الشيخ يوسف القرضاوي، الذي كان مقيماً في قطر ويحظى برعاية كبار المسؤولين في إدارتها، يُستقبل دائماً بحفاوة بالغة في الإمارات. وحصل القرضاوي على "جائزة القرآن الكريم الدولية" عام 2000، واختير "الشخصية الإسلامية للعام" في 2012. وقد سلم أمير دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الجائزة للقرضاوي شخصياً، وكان مشهد تقبيل حاكم دبي جبين القرضاوي تعبيراً عن إجلاله ومحبته له، حديث الناس لفترة طويلة.

لكن ما لبث أن اندلع الربيع العربي، فدخلت الأنظمة الخليجية، شأنها شأن كثير من الأنظمة العربية، في حالة من القلق الوجودي. وأثار احتمال انتقال السلطة عبر صناديق الاقتراع ذعر تلك الأنظمة، لتشهد الإمارات نتيجة لذلك تحوّلًا جذريًا وسريعًا في نهجها السياسي. إذ جرى من جهة تهميش المنتسبين إلى الحركات الإسلامية تحت شعار “الإسلام السياسي”، ومن جهة أخرى، انخرطت أبوظبي في مغامرات خارجية دموية وعمليات دولية متعددة. ولعل أبسط مثال على هذا التحوّل أن الشيخ يوسف القرضاوي، الذي قُبلت جبهته ويده ذات مرة، يُحتجز اليوم ابنه عبد الرحمن يوسف في سجون الإمارات منذ نحو عام. فبعد منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، اعتُقل عبد الرحمن بعنف في بيروت ورُحّل إلى أبوظبي، ولا يُعرف إلى اليوم ما الذي جرى له أو ما نوع المعاملة التي يتلقاها.

سأُوجّه نداءً، أودّ أن يدوّن في السجلات عله يجد آذانا صاغية:

إنّ العالم الإسلامي يفتقد الإمارات القديمة بشدة، تلك التي كانت تنال نصيبها من الدعاء بالخير، وتُسارع لنجدة المظلومين، وتُضمّد الجراح. إنّ العودة إلى تلك الروح الأصيلة، وتلك الأيام الجميلة باتت ضرورةً ملحّة لمستقبل منطقتنا ومصلحتنا جميعاً.

#ألبانيا
#الإمارات
#دول الخليج
#السودان
#العالم الإسلامي
#الربيع العربي
#مطار كوكس زايد الدولي