إنه يومنا الثامن على متن القارب، وأول يوم لنا في عرض البحر. لكن يبدو أن اختبارنا في المياه الدولية سيكون عسيرًا. لم تختبر الرياح أشرعتنا فحسب، بل قوة إرادتنا أيضًا. والأمواج لم تقتصر على هزّ قاربنا كما لو كان مهدًا صغيرًا، بل كانت تهزنا وكأنها تتساءل عن سبب تأخرنا كل هذا الوقت عن غزة. وفي تلك الساعات الأولى، سيتضح إن كان الناشطون الذين نذروا أنفسهم لهذه الرحلة الطويلة والمباركة قادرين على الصمود في هذا الامتحان الشاق أم لا.
صحيح أن القارب الذي نحن على متنه وسيلة بحرية ذات قدرة عالية على المناورة، ولكن هذه مجرد حقيقة تقنية. والواقع أن المساحة الداخلية فيه أشبه بزنزانة ضيقة، يجد المرء نفسه فيها محاصرًا مع جسده وأفكاره. وفيما ظننّا أنّنا قد اعتدنا الأمر في المياه الهادئة، سرعان ما تحوّل ذلك الحيز الضيق إلى قيد خانق حين استعر الموج. لقد غدا الوقوف في المقصورة السفلية بحد ذاته تحديًا، ومع كل اهتزاز للسفينة عند صعودها وهبوطها مع الأمواج، يدرك الإنسان كم أن نعمة الجاذبية عظيمة. كنا نساند بعضنا أنا ورفيقي البروفيسور الدكتور حشمت يازجي، وبقية النشطاء، وكان البعض يجلس لساعات طويلة ممسكًا بدلوه .
أما أنا، فقد آثرت في الساعات الست الأولى أن أُسلم نفسي للريح ورذاذ الماء المالح فوق سطح السفينة. كان الهواء النقي يبدّد ذلك الإحساس الخانق بالغثيان في الأماكن المغلفة. ومع الوقت، حاولتُ أن أتأقلم مع إيقاع الأمواج، وأن أصبح جزءًا من هذه القوة الهائلة، وأندمج مع القارب. وبعد جلسة التأقلم تلك فوق السطح، كان لا بدّ من النزول للنوم في المقصورة. وقبل ذلك، تناولت بعض الخبز المجفف ودواءً للغثيان لتهدئة معدتي. وهكذا نعتاد على الأمر. وحين غلبني النعاس، مددت كيس النوم واستلقيت، مسلمًا جسدي وعقلي معًا للأمواج، وانصرفت لمطالعتي. وفي تلك اللحظة خطرت لي هذه الكلمات: البحر الأبيض المتوسط هو أمّنا، وهذا المركب مهدُنا.
غفوت قليلا، لكن لم أنم نوماً عميقاً كالأطفال، إلا أنّ الأمر لم يكن بالصعوبة التي خشيتها. وعندما نهضت لأداء الصلاة، كنت على ما يرام. بعدها أسرعت إلى سطح السفينة، فالبقاء في الداخل لا يثير الغثيان فحسب، بل يسبب الإرهاق بسبب نقص الأكسجِين. في هذه الرحلة لا مكان لليأس. وعندما صعدت إلى السطح كانت الشمس تشرق، فمكثت دقائق أراقبها. ولأستعيد حيويتي شغلت نفسي بعملي؛ وقمت ببث مباشر قصير عبر حساب يني شفق على إنستغرام، شاركت خلاله متابعينا رحلتنا فوق الأمواج المتلاطمة.
وفي هذه اللحظة، سطع المعنى الحقيقي لهذه الرحلة في ذهني كالبرق؛ ما نعانيه من ضيق عابر ومشقة مؤقتة، ماذا يساوي أمام ما يكابده أهل غزّة منذ اثنين وعشرين عامًا في أكبر سجن مفتوح على وجه الأرض؟ إنهم حاضرون دائمًا في أذهاننا، غزة لا تفارقنا. ولهذا، كل مشقة تعترضنا تفقد معناها فجأةً وتكتسب معنى جديداً. فكل موجة تسبب لنا الغثيان تذكرنا بصرخة طفل يموت جوعًا. وكل ليلة مؤرقة تغدو تحيةً لعائلة، تقضي الليل مثقلة بالذعر خشية أن يُهدم بيتها فوق رؤوسها.
قيودنا خيار، أما قيودهم فحكم جائر. ولهذا، كل هزة وكل مشقة في هذه الرحلة ليست موضع شكوى، بل فرصة لنلامس معاناتهم ونشعر بهم بشكل أعمق. نحن لا نبحر على متن قارب فحسب، بل في خضم أحد أعظم امتحانات الضمير الإنساني.
مهما هاج البحر واشتدت أمواجه، ندرك أن كل عاصفة تُفضي إلى ميناء آمن. وميناؤنا هو غزة. وكما يشق مقدّم هذا القارب عباب الموج، فإن ضمير الإنسانية المتحد سيمزق يومًا ما ذاك الحصار الجائر. وعندما يحين ذلك اليوم، ستغدو هذه الأمواج بالنسبة إلينا مجرد ذكرى جميلة. وذلك اليوم قريب.
سجل الربان: تحديد 15 نقطة حتى جزيرة كريت
سيقدم الكابتن حسام الدين أيوب أوغلو، أحد قباطنة الأسطول وشقيقنا في هذه الرحلة، مساهماته في يومياتي تحت عنوان "سجل الربان"، حيث سيقيم حالة الطقس وظروف البحر. وإليكم ملاحظاته الأولى في عرض البحر:
"السبت، 20 سبتمبر. الساعة 06:25 صباحًا. سرعة الرياح 13 عقدة، واتجاهها 40 درجة. وسرعتنا 4.7 عقدة. نرسل هذه المعلومات إلى فريق التنسيق العام كل ساعتين. بعد مغادرتنا صقلية، حددنا 15 نقطة مسار على طول طريقنا إلى شمال جزيرة كريت. وقد تجاوزنا النقطة الثالثة. وقمنا بتقسيم كل نقطة إلى رحلة تستغرق حوالي خمس أو ست ساعات. سرعة الإبحار حاليًا 109 درجات. وبعد النقطة الرابعة، من المقرر تخفيض درجة المسار إلى 80-90 درجة، ويهدف هذا المسار الجديد إلى إيصال السفينة إلى شمال جزيرة كريت. الإبحار يسير على ما يرام. إنه يوم اعتياد وتأقلم لمن لم يستعد أو يبحر في عرض البحر قط. والآن بات الجميع على وعي بما سيواجهونه، ولكن الحمد لله لا نواجه أي مشاكل، نسأل الله أن يبلّغنا غزة بسلام.”
من رسائلكم: تحية لكل صامد
منذ اللحظة التي أعلنت فيها انطلاقي مع أسطول الصمود، انهالت عليّ مئات الرسائل والاتصالات الداعمة. وإذا أضفنا إليها ما كُتب في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ سيل الدعوات والتمنيات لا ينقطع، وهو ما يمدّنا بطاقة معنوية كبيرة. لا أستطيع التمييز بين رسالة وأخرى، فجميعها لا تُقدر بثمن. ومن الآن فصاعدًا، سأقوم بنشر بعض هذه الرسائل التي تصلنا كدعم برّي لرحلة الصمود. وسأبدأ بما وصلني أمس من الأخ دوران بوز من ولاية كهرمان مرعش:
"السلام عليك يا أخي أرسين.
يجب أن نقف إجلالًا لتلك العيون التي ترى غزة.
تحية لكل الذين يقفون شامخين في سبيل الدفاع عن شرفهم، وهم يهتفون: "لن نذهب إلا إلى غزة والقدس، ولن نرضخ لأشد سفاحي الأرض وحشيةً ولعصابات الإبادة الجماعية. أسأل الله أن يحفظ كل من سلك هذا الدرب وسار عليه من كل سوء.
تحياتي ودعواتي لك. ألف تحية ودعاء لرفيقك يشار (يافوز)".
بالإضافة إلى مشاعر الأخ دوران، أود أن أضيف ما كتبته السيدة هوليا دميرجي أوغلو تحت منشور لي على إنستغرام:
"عندما تحتضنون تلك العيون الصغيرة التي تنتظركم على الشاطئ، سنشارككم نحن أيضا في ذلك العناق، حتى لو كنا بعيدين. وعندما تصلون إلى إخواننا الذين يحملون أثقل الأعباء في العالم، أخبروهم أننا لم ننساهم ولم نهملهم. ربما شعرنا بالعجز، لكنهم أيقظوا ضمير الإنسانية، ولن يعود شيء كما كان أبدا. تحياتي، ودعواتي، ومحبتي لكم إخواني."
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة