ها نحن نطوي اليوم الثالث لنا فوق سطح البحر. لقد استغرق الأمر يومين كاملين حتى تتكيف أجسادنا مع إيقاع الأمواج، غير أنّ هذا التكيّف الجسدي اكتسب معنى أعمق بكثير: إنّه ارتياح اجتياز إحدى أصعب المراحل في هذه الرحلة، وهي اختبارنا الأول مع أنفسنا. ومن ثمّ، فإن هذا الاعتياد لم يعد مجرد تكيف جسدي، بل غدا اجتيازًا لعتبة نفسية وفكرية، وإشارة إلى أنّ "أكثر الطريق قد مضى". ومن المتوقع أن نصل إلى أولى محطات الأسطول في كريت بعد الظهر. حين أصعد كل صباح إلى السطح أنغمس في تأمل البحر اللامتناهي؛ بحر أزرق ممتدّ بلا نهاية من حولنا، فيما لا يمثل قاربنا الشراعي سوى قطرة في هذا المحيط. وهكذا نسير نحن حفنة من البشر، قطرةً إثر قطرة باسم الإنسانية نحو غزة.
إن أروع دليل على أن صوت هذه القطرات قد تجاوز المحيطات، هو ذلك الجسر الروحي الذي أقمناه من وسط البحر الأبيض المتوسط إلى قلب روما في المساء الماضي. فمن على سطح قارينا ووسط عويل الرياح وهدير الأمواج طُلب مني مخاطبة الحشد المُجتمع في ساحة سيمبيوني التاريخية بروما عبر مكالمة فيديو. ورغم أنني لا أجيد اللغة الإيطالية، إلا أنني كصحفي وناشط أجيد التحدث "بلغة غزة"؛ لغة المظلومين، ولغة الضمير الإنساني العالمي. وقد نُظم اللقاء بالتعاون بين لجنة دعم فلسطين ولجنة روما المناهضة للصهيونية، وقبيل المشاركة أعددت خطابًا دقيقًا تمت ترجمته إلى الإيطالية وتُلي على الجماهير هناك، ثم طُلب مني لاحقًا نسخه للاحتفاظ به. وعلمت لاحقا أنّ خطابي تلي باسمي في أربع اجتماعات أخرى عقدت مساء اليوم التالي.
كان مضمون الرسالة التي بعثناها من على متن قاربنا المتجه إلى غزّة، إلى الحشود الواعية وذات الضمير الحي، التي اجتمعت في قلب مدينة روما من أجل سكان غزة على النحو التالي:
"أيها الأصدقاء الأعزاء، يا أهل روما الكرام... تحية للضمير الذي يملأ هذا الميدان، ولحس العدالة الذي جعل هذه المدينة صامدة لقرون. أنا صحفي تركي ومشارك في أسطول الصمود العالمي. أتحدث هنا بصوت الإنسانية المشترك، لأن قضيتنا اليوم هي الحق في الحياة، وكرامة الإنسان، وابتسامة الأطفال.
رحلتنا هي رحلة سلام. ما نحمله ليس مجرد دواء أو طعام، بل نحمل رسالة أمل للعالم كله: "التعايش لا يزال ممكنًا". من هنا، نوجه نداءً واضحًا: وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، وحماية جميع المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
إن الصوت الصادر من روما اليوم يخاطب ضمير هذا القرن. فالبحر الأبيض المتوسط ليس بحر انقسام، بل فضاء مشترك يجمع الأطراف المتقابلة. لقد علمتنا هذه الرحلة أن قاربًا واحدًا يمكنه أن يمضي في أحلك الليالي مسترشدًا بضوء شمعة واحدة. قد تكون تلك الشمعة دواءً في حقيبة طبيب، أو حقيقةً في كاميرا صحفي، وأحيانًا أخرى مثلكم آلاف القلوب التي تنبض معًا في وقت واحد.
نحن لن نستسلم. فلا تستسلموا أنتم أيضًا. يا أطفال غزة، لستم وحدكم.
سنواصل المسير معًا حتى نمسح تلك الدموع."
وعندما انتهى كلامي، لم يكسر الصمت العميق على سطح القارب سوى صوت الرياح والأمواج. وفي تلك اللحظات، أدركت أن صدى هذا القارب الصغير في وسط البحر الأبيض المتوسط قد وصل إلى مسافة بعيدة جدًا، وأن النداء الصاعد من روما لم يكن صرخة فردية.
لقد تجلّى صدى رحلتنا في صورة أخرى بالغة القوة مساء أول أمس منطقة أوسكدار بإسطنبول، التي كانت لسنوات طويلة تشرف على روما الشرقية حتى فتحها على يد السلطان محمد الفاتح.
إن الوقفة التي انطلقت بمبادرة من "أوبن رفح" و"المبادرة الفلسطينية" ستعزز من قوتنا على البر. وشاركت أنا أيضًا بمداخلة قصيرة عبر الفيديو، كما فعلت قبل ليلتين، وتلقيت الدعوات منهم. وفي تلك اللحظة، أدركت مجددا أن ذلك الميدان في روما، ووقفة أسطول الصمود في أسكودار، وصلاة التهجد التي أقيمت بعدها، كانت بمثابة فوانيس تُضاء من جميع أنحاء العالم على كل قارب من قوارب هذا الأسطول المتجه إلى غزة. نحن لسنا وحيدين في وسط البحر؛ نحن صوت ملايين الضمائر على البر.
واليوم، ونحن نواصل رحلتنا باتجاه جزيرة كريت، نشعر في أشرعتنا برياح ذلك الصوت القادم من روما وأسكودار. كلما تقدمنا في عرض البحر، تعاظم الأمل على البر، وكلما ارتفع صوت الضمير هناك، ازداد عزمنا هنا. إنها ليست رحلة أحادية الاتجاه، بل مقاومة متكاملة؛ يتحد فيها البحر والبر نصرةً للعدالة.
سجل الربان: مواجهة الرياح
إليكم ملاحظات قباطننا حسام الدين أيوب أوغلو عن إبحار الليلة الماضية والساعات القادمة:
"الأحد، 21 سبتمبر. الساعة 04:37 غرينتش. سرعة الرياح 7.5 عقدة، اتجاهها 53 درجة. اتجاه مسارنا 90 درجة، يتوافق تمامًا مع جزيرة كريت. الشمس تشرق أمامنا مباشرة. وستبقى الرياح في هذا الاتجاه طوال اليوم. مع اقترابنا من جزر كريت، قد نشعر بقوة الرياح. إن شاء الله سنصل هناك ظهر الغد، حينها ستضعف قوة الرياح. الحمد لله، كان إبحارًا ميسّرًا طوال الليل. الرياح كانت في مواجهتنا، لذلك اضطررنا لتشغيل المحرك، وهو ما استهلك بعض الوقود. الأشرعة الرئيسية مفتوحة، ونتلقى الرياح بزاوية 30-40 درجة. نواصل الإبحار، ونسأل الله أن يبلغنا غزة بسلام."
رسائل منكم
تلقيت بالأمس هذه الرسالة من صديقنا عمر فاروق ترزي، الذي كان قدوة حسنة للشباب في تركيا لسنوات، جزاه الله خيرًا:
"أخي العزيز، السلام عليكم. لقد استمعت إلى بثك هذا الصباح. لقد عبرت بوضوح عن المرحلة التي بلغها الأسطول وظروفه الراهنة. إن استمرار هذا العمل باحترافية ورؤية استراتيجية مهم جدًا لتحقيق الهدف. أسأل الله أن يبارك في مسيرتكم، ويسهّل خطاكم وينير دربكم. إننا ندعو لكم، ونطلب أيضا منكم الدعاء، أيها المسافرون المباركون. تحية لجميع الأشخاص الرائعين في أسطول الصمود، الذين يمضون للقاء أهل غزة، ذلك الشعب الذي ضرب أروع المثل في التسليم التام لربه، وأصبح قدوة للعالم بأسره."
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة