يوميات أسطول الصمود.. ميلاً بميل على مشارف غزة

08:471/10/2025, الأربعاء
تحديث: 1/10/2025, الأربعاء
أرسين جليك

أعتقد أن هذا سيكون أصعب مقال أكتبه. أجد نفسي في لحظة تعجز فيها الكلمات عن الوصف، وتضيق فيها المشاعر عن أن تسعها الكتابة. لقد مر شهر كامل منذ أن وطئت قدماي إيطاليا مساء 31 أغسطس للانضمام إلى الأسطول. وها نحن نبحر في البحر دون توقف منذ 18 يوماً. فأصبحت القوارب بيتنا، والأمواج رفيقة دربنا. وقد وفقني الله لتدوين شهاداتي يوماً بيوم حول هذه الرحلة التاريخية رغم الظروف التي مررنا بها، وها أنتم تقرأون الآن المذكرة الثلاثين من يومياتي. 30 مقالة كتبتها بملح البحر الأبيض المتوسط والحنين لفلسطين. نحن الآن على

أعتقد أن هذا سيكون أصعب مقال أكتبه. أجد نفسي في لحظة تعجز فيها الكلمات عن الوصف، وتضيق فيها المشاعر عن أن تسعها الكتابة. لقد مر شهر كامل منذ أن وطئت قدماي إيطاليا مساء 31 أغسطس للانضمام إلى الأسطول. وها نحن نبحر في البحر دون توقف منذ 18 يوماً. فأصبحت القوارب بيتنا، والأمواج رفيقة دربنا. وقد وفقني الله لتدوين شهاداتي يوماً بيوم حول هذه الرحلة التاريخية رغم الظروف التي مررنا بها، وها أنتم تقرأون الآن المذكرة الثلاثين من يومياتي. 30 مقالة كتبتها بملح البحر الأبيض المتوسط والحنين لفلسطين.

نحن الآن على مسافة حاسمة في طريقنا إلى غزة. وبينما تقرؤون هذه السطور، نأمل أن نكون على بعد 150 ميلاً بحرياً من غزة. عندما نظرت إلى الخريطة وأنا في ميناء أوغوستا في صقلية، حيث رسونا للمرة الأولى، كانت غزة على بعد 1100 ميل. في ذلك اليوم بدا قطع تلك المسافة الشاسعة أمرا مستحيلا. أما الآن، فقد اقتربنا لدرجة يمكن الإشارة إليها باليد، وفي الوقت نفسه ندخل بسرعة إلى المنطقة التي تعترض فيها إسرائيل عادة السفن. إنها عتبة خطيرة، حيث تستولي إسرائيل على المياه الدولية منتهكة القانون الدولي. إذا لم نواجه أي عوائق، فخطتنا هي الوصول إلى شواطئ غزة المحتلة ظهر يوم الخميس.

لا أعلم إن كنت سأتمكن غداً من كتابة مقال جديد، أو إن كنا سنتمكن من الوصول إلى الإنترنت، ولا أضمن حتى بقائي على هذا القارب. لكن ما أكتبه الآن ليس كلمات وداع، بل ربما بشرى لبداية جديدة. إن وفقنا ووصلنا إلى غزة فسأكتب من أرض الحصار تلك رواياتٍ وقصصاً تنبض من قلب المقاومة. مجرد هذا التفكير وحده يذهب عني التعب. لذلك فهذه السطور ليست خاتمة، بل هي آخر صفحات فصلٍ مؤقت في الرحلة.

لقد أمضيت اليوم وقتا طويلًا أراقب النشطاء الآخرين على متن السفينة، محدقاً في وجوههم واحداً تلو الآخر. كانت آثار ثمانية عشر يوماً من الإبحار والإعياء باديةً على وجوههم، لكن العزيمة في عيونهم كانت أوضح من أي وقت مضى. نحن جميعاً على متن قارب بحجم قشرة البندق مقارنة بالأمواج، نمضي بإيمانٍ لا يتزعزع بأن نهاية هذا الطريق ستُفضي بنا إلى غزة. يرافقنا برلمانيون وصحفيون إيطاليون، ونتحدث معهم بين الحين والآخر أنا و"سما نور سونماز يامان". إنهم يدركون تماماً أهمية هذه المهمة، يدوّنون الملاحظات ويوثّقون كل لحظة. إنهم كبقية أفراد الأسطول، هادئو البال وشجعان، يتوقون إلى بلوغ غزة بأسرع ما يمكن.

يعيش الناشطون على متن القارب لحظات مؤثرة. انزوى الجميع جانباً، ليتصل بأحبائه. ويبلغونهم بآخر المستجدات ويودعونهم قبل انقطاع محتمل للاتصال. يقول أب لابنه: "سأعود قريباً، وسأحضر لك هدية من غزة". ويطمئن شاب والدته قائلا: "لا تقلقي، نحن بخير وأقوياء جداً". هذه المحادثات ليست تجهيزات لحرب، بل هي أصوات حماس لطيف يسبق لحظة اللقاء المنتظرة. كل مكالمة هاتفية تُعد نبضة في حياة تُركت خلفنا وتجديدا للإيمان بالهدف المقبل.

في الصباح، أرسل أحد أصدقائنا في المجموعة التركية رسالة لخصت روح اليوم: "لنرتدِ ملابس العيد هذا المساء." في الواقع لم نحضر الكثير من الملابس معنا، لكن الجميع فهم معنى الرسالة. إن ملابس العيد بالنسبة لنا هي الإيمان والعزيمة التي تحلينا بهما طوال هذه الرحلة. لقد كانت دعوة لنستعد بأبهى وأشرف حالنا ليوم الاحتفال الكبير باللقاء مع أهل غزة. إنها رغبة في الوصول إلى تلك السواحل التي طغى عليها الألم والحصار، كشعلة أمل، وكفرحة عيد. كانت رغبة في أن نقول: "لم نأتِ إليكم عبثًا، بل جئناكم كصباح عيد." لا نعلم ماذا سيحدث غدًا، لكننا متفائلون وكأننا سنستيقظ في يوم عيد.


إلى أسرنا العزيزة..

أود أن أخصّ الجزء الأخير من كتابتي للأسر… بداية بعائلتي؛ زوجتي نورية ووالدتي جولاي، وبالنيابة عن الأصدقاء القادمين من تركيا أود أن أعبر عن بالغ الشكر والامتنان لمن تركناهم خلفنا، ولكل من ساندنا بصدق. أنتم الذين ودعتمونا في رحلة غزة، وتحملتم طوال شهر كامل عبء البقاء في المنازل، وإن سألتم “أيهما أصعب: الذهاب أم البقاء؟” فلا شك أنه البقاء، وقد واجهتم هذا التحدي بشجاعة وإقدام.

معظم الحكايات التي رُويت حول أسطول الصمود تركز على القوارب التي تتحدى الأمواج والنشطاء الشجعان، ولكن نصف هذه الشجاعة غير المرئي، يرتكز على أكتاف الأسر التي تنتظر بصمت في المنازل. وراء العناوين المثيرة، وصور الموانئ المزدحمة، والخطب الحماسية؛ هناك من يستيقظ مذعورا على وقع مكالمات هاتفية في منتصف الليل، ويتابع الأخبار بقلق وترقب: أمهات، وآباء، وأزواج، وأطفال، وإخوة، وأصدقاء.

وبينما كنا نحن نصارع أمواج البحر، كنتم أنتم تتخبطون في أمواج الأخبار والغموض. كانت قلوبكم تقفز خوفاً مع كل رنة هاتف. وفي الليالي التي يصيبكم فيها القلق تتساءلون: "أين هم الآن، وهل هم بأمان؟". لم تكتفوا بالانتظار، بل كنتم أيضاً أقوى الداعمين لنا على اليابسة وصوتنا المسموع. تحدثتم نيابة عنا، ودعوتُم لنا، وأوضحتم في كل مناسبة أننا جزء من هذه القضية العادلة.

وأثناء حفاظكم على استقرار الحياة المنزلية، أقمتُم لغةً من الرحمة واللطف لتخفيف الفراغ الذي تركه غيابنا. على موائد العشاء، عوَّضتم الكراسي الفارغة بالملاحظات التي كتبها الأطفال، والأسئلة المؤجلة، وفضولهم المحبوس في انتظار أن نعود ونروي لهم قصصنا. توليتم بصمت أعباء الإجازات المأخوذة من العمل، والميزانيات المحدودة، والخطط المؤجلة؛ وفي أحيان أخرى، أدرتم بصبر فضول الجيران والمدرسة والأقارب.

إن أصعب جزء في هذه التضحية هو تحمل الغموض، أن تحاول استخلاص المعنى من الجداول اللوجستية، والخرائط البحرية، وتدفق الأخبار الدولية؛ أن تحتفظ بالخوف والأمل في الجملة ذاتها. إن الشعور بأن "هناك عالم كامل خلفي"، الذي يمنح الناشط قوته الحقيقية، يولد تحديداً من داخل هذه المنازل. فالتضامن ليس فقط سلاسل تُنصب في الموانئ؛ بل هو إيقاع النفس الذي يؤخذ في البيت، وأخلاق الانتظار، وجهد الصبر اليومي.

لقد وُلد حفيد للسيدة ديليك شان أوجاك؛ فذرفت الدموع وهي تستمع إلى صرخته الأولى عبر الهاتف. وغاب مصطفى شيمشك عن حفل زفاف محمد هاكان؛ فبقي مقعده فارغا في القاعة، وغابت ابتسامة. بعض أصدقائنا سارعوا إلى الأسطول بعد أن طلبوا من آبائهم وأمهاتهم المرضى أن يسامحوهم؛ فمواعيد الأدوية التي وضعت في الحقيبة، ودفاتر الدعاء التي بقيت في المنزل، والملاحظات المعلقة على الباب: "اتصلوا عند العودة".. والكثير من القصص الأخرى.. هذه القصص هي قصص العائلات التي تُركت خلف النشطاء، قصص المنتظرين والصابرين، أولئك الذين احتضنوا بصمت البحر المتوسط الذي لم نستطع عبوره طوال شهر، في أكفهم المرفوعة بالدعاء.

لولا ثباتكم ودعمكم لَما اكتملت عزيمتنا وسط البحر. قوتنا لا تنبع من إيماننا وحده، بل من محبتكم الراسخة وصبركم الذي يقف خلفنا أيضا. سامحونا إن قصّرنا بحقكم. إن هذه الرحلة لن تتحقق لغزة فقط، بل ستكلل بالنجاح أيضاً من أجل قلوبكم الطيبة.

والآن، ونحن ندخل الساعات الأربع والعشرين الأخيرة.. حين نحدّق في خط الأفق، لا نرى البحر وحده؛ بل نرى حلمًا وهدفًا، وإمكانية إنهاء ظلم طال سنينًا. هذه القوارب لا تحمل الناس والمساعدات فحسب؛ بل تحمل اعتراض الإنسانية على عالم صامت أغفلهم. تحمل وعداً أُعطي لشعب منسي. لا نعلم ماذا سيحصل يوم الأربعاء في هذا البحر، لكن ما نعلمه يقينًا: إما أن يبزغ صباح عيدٍ في ميناء غزة، وإما أن يقذف ضمير العالم مجددا إلى هذه الأمواج. ونحن مستعدّون لكلا الاحتمالين.

#أسطول الصمود
#غزة
#القوارب
#الإبحار
#الاحتلال الإسرائيلي
#رحلة
#البحر المتوسط