أزمة في التعليم الطبي.. مضاعفات السياسة الصحية الأخيرة

08:227/05/2025, الأربعاء
تحديث: 7/05/2025, الأربعاء
ياسين اكتاي

إن القدرة على التنبؤ بأن الحلول التي تُطرَح لمعالجة المشاكل قد تُفضي نفسها إلى مشاكل أخرى يُعد بحد ذاته ميزة سياسية رفيعة. فإنتاج المشاكل جزء من طبيعة المجتمعات، والسياسة وُجدت ابتداءً لتشخيص هذه المشاكل ثم معالجتها بشكل سليم. غير أن الحلول أو العلاجات التي تُطبَّق أحيانًا قد تكون لها مضاعفات، مما يقتضي اتخاذ تدابير وقائية إلى جانب العلاج الأساسي لمواجهة هذه المضاعفات. ولا يعود استخدامنا للمصطلحات الطبية في سياق الحديث عن السياسة إلى أننا نرى السياسة بمنزلة العمليات الطبية الدقيقة. بل إن اختزال

إن القدرة على التنبؤ بأن الحلول التي تُطرَح لمعالجة المشاكل قد تُفضي نفسها إلى مشاكل أخرى يُعد بحد ذاته ميزة سياسية رفيعة. فإنتاج المشاكل جزء من طبيعة المجتمعات، والسياسة وُجدت ابتداءً لتشخيص هذه المشاكل ثم معالجتها بشكل سليم. غير أن الحلول أو العلاجات التي تُطبَّق أحيانًا قد تكون لها مضاعفات، مما يقتضي اتخاذ تدابير وقائية إلى جانب العلاج الأساسي لمواجهة هذه المضاعفات.

ولا يعود استخدامنا للمصطلحات الطبية في سياق الحديث عن السياسة إلى أننا نرى السياسة بمنزلة العمليات الطبية الدقيقة. بل إن اختزال السياسة في إطار الطب أو الهندسة يُعد في حد ذاته أمرًا بالغ الخطورة. فليس السياسي أمام مريض يخضع لعمليات ذات نتائج علمية دون مقاومة، بل أمام مجتمع متنوع، قد يعارض السياسات المتبعة، وقد تكون له مصالح أو أضرار من هذه السياسة. ومن ثم فإن استخدامنا للمصطلحات الطبية هنا يكتسب معنى خاصًا، بالنظر إلى أن المجال الذي نتحدث عنه هو الطب تحديدًا.

فمنذ ثلاث سنوات فقط، كنا نتحدث عن أن العاملين في القطاع الصحي بتركيا، وعلى وجه الخصوص الأطباء، لا سيما أولئك العاملين ضمن كوادر وزارة الصحة، يتعرضون لظلم واضح يتمثل في تدني أجورهم ومزاياهم الوظيفية، التي لا تتناسب مع طبيعة مهنتهم وما تقتضيه من جهد وأهمية وتميّز. وكانت هذه المشكلة بالفعل قائمة آنذاك. وقد أطلقنا حينها حملة "نداء العدالة للأطباء"، مؤكدين أن الأطباء، رغم الخصائص التي تُضفي على مهنة الطب قيمة ومشقة، بدءًا من التعليم الذي يتلقونه، كانوا بعيدين عن نيل ما يستحقونه من الأجور أو الحقوق الوظيفية.

وقد جاء هذا النداء للعدالة إلى حد ما كإشارة إلى المبدأ التأسيسي لحزب العدالة والتنمية، والمتمثل في "العدالة". ولم يكن الأمر متعلقًا فقط بتحقيق العدالة بين المهن المختلفة، بل لأن أقوى ما تميزت به سياسات الحزب، والتي جعلته يستمر في الحكم كل هذه السنوات، هو قطاع الصحة تحديدًا، وهو القطاع الذي تحمّل عبء نجاحه بشكل خاص العاملون فيه. فقد استطاع حزب العدالة والتنمية أن يجد في المجال الصحي الفرصة الأكبر لإثبات مصداقيته بخدمة الشعب، بالطبع دون تجاهل المجالات الأخرى وإحداث نوع آخر من الظلم. ولكن الحقيقة التي يراها الجميع هي أن السياسات الصحية التي يمكن وصفها دون مبالغة بأنها "ثورة" قد أُلقي عبؤها إلى حد كبير على عاتق العاملين في القطاع الصحي.

وقلنا حينها: "ينبغي أن يُمنح العاملون في القطاع الصحي ما يستحقونه من تقدير واحترام، ويجب أن يبدأ ذلك أولا بتحسين مستوى رواتبهم وحقوقهم الوظيفية."

وقد تم ذلك بالفعل منذ ذلك الحين. ولكن للأسف، فإن التحسينات التي أُجريت هذه المرة لم تُراعِ بعض الظروف الوظيفية داخل القطاع الصحي، والفروقات القطاعية، والعلاقات بين القطاع الخاص ووزارة الصحة وما قد تسفر عنه من نتائج، وخاصة الفروقات الناشئة بين مزايا رأس المال المتداول في الجامعات ووزارة الصحة. ونتيجة لذلك، يقف قطاعنا الصحي اليوم على حافة أزمة جديدة تمامًا.

أما الفضيحة التي تفجّرت في الأشهر الماضية في قضية "حديثي الولادة والعناية المشددة"، فقد دقّت ناقوس الخطر بشأن الآثار التي يمكن أن تُخلّفها الطفرة التي شهدها القطاع الصحي الخاص. وقد شكّلت تلك الفضيحة إنذاراً صارخاً يُنبّه إلى غياب قاعدة أخلاقية متينة في بنية النظام الصحي. ولا بد لنا من مناقشة هذا الموضوع على نحو معمّق وموسّع؛ إذ إن صون حياة الإنسان وتقديم الرعاية الصحية، يفرض على هذا القطاع أن يكون أكثر تمسكا بالمبادئ الأخلاقية، والقيم، والمعايير الإنسانية، مقارنة بأي مهنة أخرى. وإذا اختُزلت هذه المسألة الحيوية إلى مجرد مجال للتربّح الوحشي، فلا ينبغي لمثل هذا المجتمع أن يتوقّع مستقبلاً سوى الكوارث.

وقد وجدت نفسي مضطراً للتوقف عند هذه النقطة لأهميتها القصوى، إلا أن القضية الأساسية التي أردت تناولها اليوم تتمثّل في إحدى "المضاعفات" لعلاج مشكلة تم تشخيصها ومعالجتها مسبقًا في المجال الصحي، أتحدث هنا عن مشكلة تؤثر مباشرة على التعليم في كليات الطب.

إن إحدى المضاعفات الناجمة عن تحسين أوضاع الأطباء المتخصصين التابعين لوزارة الصحة هي انعكاس ذلك على وضع الأطباء أعضاء هيئة التدريس في كليات الجامعات. فالفارق الذي نشأ بين هذين القطاعين تسبب في موجة هجرة من كليات الطب إلى وزارة الصحة، لدرجة أن العديد من كليات الطب باتت تعاني من صعوبة العثور على أساتذة يُدرّسون فيها.

وسأنقل بإيجاز ما أفاد به عدد من عمداء كليات الطب التي تُعاني من صعوبة في العثور على أعضاء هيئة تدريس لكلياتهم:

"إن راتب الطبيب المختص حاليًا أعلى من راتب الأستاذ المحاضر.

ونظرًا للفارق الكبير في الأجور، فإن الأطباء المتخصصين يفضّلون العمل في مستشفيات الدولة كأطباء بدلًا من العمل كأساتذة محاضرين في كليات الطب.

كما أن الأطباء المختصين العاملين كأعضاء هيئة تدريس في أي جامعة، يملكون حق الانتقال إلى أي مكان يرغبون في العمل فيه كأطباء مختصين. أي أن عملهم كأعضاء هيئة تدريس يمنحهم الحق في طلب النقل إلى المكان الذي يختارونه. وهذه ميزة إيجابية لصالحهم.

ونظرًا لكون راتب الطبيب المختص أعلى من راتب عضو هيئة التدريس، إلى جانب امتلاك عضو هيئة التدريس المتخصص لحق النقل إلى أي موقع يرغب فيه، نلاحظ أن كثيرًا من الأطباء الذين ينتقلون إلى العمل كمدرسين، يعودون بعد شهر أو شهرين فقط للعمل كأطباء مختصين في المكان الذي يفضلونه. وهذا ما يتسبب بعجز كبير في أعداد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات.

أما أعضاء هيئة التدريس العاملون في وزارة الصحة، فيحصلون غالبًا على دخل أعلى من نظرائهم في الجامعات، بفضل ارتفاع رأس المال المتداول والمدفوعات الإضافية التي يتقاضونها. إذ إن نظام الأداء هناك أكثر ربحية، وحجم الضغط الناتج عن عدد المرضى المرتفع يؤدي إلى زيادة العوائد، خاصةً أولئك الذين يعملون في المستشفيات التعليمية والبحثية حيث يحصلون على دخل إضافي كبير نظرًا لتقديمهم الخدمات السريرية والتعليمية. وفي المقابل فإن العاملين في مستشفيات الجامعات (كليات الطب) غالباً ما يتقاضون رواتب ثابتة، كما أن العائدات من "رأس المال المتداول" منخفضة بشكل عام. فالعائدات المخصصة للمدرسين في بعض الجامعات محدودة للغاية، أو قد لا تكون موجودة. ولكن توفّر بعض الجامعات فرص دخل إضافية من خلال السماح للأطباء بالكشف على المرضى في عيادات الجامعة الخاصة إذا كانت لديهم رخصة لذلك."

جميع هذه الامتيازات التي يحصل عليها الأطباء في وزارة الصحة نتجت عن السياسات الإصلاحية الرامية إلى تحسين أوضاعهم. غير أن هذه السياسات، إمّا أنها تجاوزت حدود التوازن والعدالة، أو أنها نُفِّذت دون تقدير دقيق لما قد تخلّفه من آثار جانبية على كليات الطب. واليوم ندفع ثمن هذا الخلل من خلال الأزمة التي يواجهها تعليم الطب في بلادنا. فكليات الطب باتت عاجزة عن إيجاد أساتذة للتدريس في العديد من التخصصات، وحتى الأساتذة الحاليون ينتقلون إلى وزارة الصحة أو إلى القطاع الخاص.

وفي ظل المرحلة التي تطمح فيها تركيا لأن تصبح فاعلاً دوليًا بارزًا في تقديم الخدمات الدولية، ولا سيما في مجال الطب، فإن معالجة هذه "الآثار الجانبية" تستلزم حلولًا علاجية جديدة وشاملة.


#التعليم الطبي
#أزمة
#تركيا
#طبيب مختص
#كليات الطب
#وزارة الصحة
#القطاع الصحي