في يوم الجمعة، أقيمت مراسم إحراق الأسلحة من قِبل عناصر تنظيم "بي كي كي" الإرهابي بمدينة السليمانية، وفقًا لخارطة الطريق التي وُضعت للعملية، في حدث نُظم بدقة فائقة وحرفية عالية، حيث جسّدت التفاصيل رموزاً دقيقة ومعاني عميقة. لقد جرت هذه المراسم بتناغم تام مع روح العملية، مع تجنب أي تصرف من شأنه إثارة الحساسية أو الإزعاج لأي من الأطراف المعنية أو الجهات المنخرطة في العملية، مما حوّل هذه الحساسية الرفيعة في حد ذاتها إلى رسالة بالغة الدقة. نتوجه بالتهنئة لكل من ساهم في تنظيم هذا الحدث، وخاصةً جهاز الاستخبارات الذي أدار العملية بدقة منذ البداية، وللإدارة الإقليمية، ومسؤولي حزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب".
ولا بد من التذكير بما جرى خلال "عملية الحلّ" السابقة، حين تحوّلت الاستعراضات في "الخابور" إلى مظاهر احتفالية أقرب إلى عرضٍ انتصاري من جانب التنظيم، مما أفضى إلى تقويض العملية آنذاك. وفي مرحلة لاحقة، ورغم الاتفاق على دفن الأسلحة ومغادرة العناصر إلى خارج البلاد، إلا أن التنظيم استغل فترة التهدئة الخالية من العمليات الأمنية والعسكرية في تجنيد المزيد من الشبان، بل وحتى الأطفال، بالإضافة إلى محاولات فرض أمر واقع شبه انفصالي في المنطقة كما لو أن الدولة اعترفت به، الأمر الذي أعاق مسار الحل وأدخله في حالة من الجمود. أما اليوم فإن الدروس المستفادة من تلك التجربة قد تجلّت بوضوح في مراسم إحراق الأسلحة التي جرت في السليمانية.
ويكتسب اختيار موقع مراسم إحراق الأسلحة أهمية ودلالة خاصة بحد ذاته، إذ أُقيمت في مغارة جاسنا التي اتّخذها الشيخ الكردي محمود الحفيد البرزنجي مقرًا لأنشطته ومقاومته إبّان الانتداب البريطاني، وهو من رعايا الدولة العثمانية الذين تمرّدوا على الاحتلال البريطاني. هذا الاختيار يُوجّه رسائل إلى العديد من الأطراف في آنٍ واحد.
فالرسالة الأولى كانت موجهة إلى القوى الإمبريالية والصهيونية التي لطالما استخدمت تنظيم "بي كي كي" أداة في مشاريعها ضد تركيا: لقد أُعيد بناء الوحدة التاريخية بين الأكراد والأتراك وحتى العرب.
أما الرسالة الثانية، فهي موجَّهة إلى الشعب التركي، عبر استحضار رمزية المغارة لتذكيره بالجذور التاريخية للأخوة والوحدة الراسخة التي تربطه بالشعب الكردي،. فالمغارات تمثّل عادةً حالة من السكون والسبات، يليها بعث ونهوض متجدد، واستئناف للمسار بإرادة أقوى وروح متجددة، كما في قصة أصحاب الكهف. وهذا هو مغزى الأخوّة والوحدة التي تُستعاد اليوم بعد قرن من التحديات والمصاعب.
إن القيمة الرمزية لمغارة "جاسنا" بالغة العمق؛ فقد كانت قبل مئة عام تحتضن خطب الجهاد والدعوة إلى وحدة الأتراك والأكراد والعرب، وكانت آخر معقل للمقاومة العثمانية في وجه الاستعمار. فالدولة العثمانية لم تُهزم على ساحات المعارك، بل أُسقطت لاحقًا بفعل المؤامرات التي استهدفت روابط الأخوة بين مكوناتها.
بالطبع ما قاله الرئيس حول هذا الحدث التاريخي كان بالغ الأهمية.
لقد جاء خطابه في الاجتماع التشاوري والتقييمي السنوي المعتاد (الذي بات يُعقد كل ستة أشهر مؤخرًا) في "كزلجي حمام" تعبيرًا قويًا عن هذا الحدث.
ورغم أنه استعرض تاريخ الإرهاب الذي استمر 47 عامًا، إلا أنه أشار تحديدًا إلى أبعاده الممتدة لمئة عام. ولم يُقدّم الحدث على أنه مجرّد حل لمشكلة الإرهاب التي كلّفت تركيا وقتًا وجهدًا طيلة 47 عامًا، بل وضع القضية في سياق أوسع كصحوة للأخوة التركية والعربية والكردية ووحدة الأمة بعد سبات دام قرنا كاملا.
وقد يتساءل البعض: ما علاقة العرب بكل هذا؟ إلا أن الرئيس أردوغان تحدّث من أفق أوسع، يتجاوز النظرة المحلية الضيقة، فنسبة العرب من سكان تركيا لا تقل عن 4 إلى 5 بالمئة، وهي شريحة لم تُظهر يومًا أي إشكال في الانتماء للدولة، ولم تتسبب في أي اضطرابات. في المقابل، لا يمكن إنكار معاناة هذه الفئة أحيانًا وشعورها بالضيق نتيجة الخطابات المعادية للعرب التي تُطلق أحيانًا بلا مسؤولية، ما يخلّف حالة من التهميش والضيق. ورغم أن هذه النقطة لم تكن المحور الأساسي في خطاب أردوغان، إلا أنها وردت فيه كإشارة ثانوية ذات مغزى.
ما يستحق الوقوف عنده حقًا هو الأفق الجديد الذي فُتح أمام تركيا نتيجة احتضانها لقضية غزة وفلسطين، واهتمامها المباشر بما يجري في سوريا. هذا الأفق هو ما منحها صوتًا ونفوذًا في العالم العربي. وهذه المكانة ليست سوى امتداد طبيعي لمسائل لم تُغلق ملفاتها قبل قرن من الزمان، بل جرى طيّها على عجل وبقرارات فوقية، وأُهملت معها الحقوق والمسؤوليات التاريخية. ومن ضمن ما ترتّب على تلك المرحلة من تقصير وفوضى، ما عُرف لاحقًا بـ"القضية الكردية". لكن العلاقة مع الأكراد لم تَعُد قضية أو مشكلة. بل إن الأكراد – تمامًا كالعرب – يمثلون مصدر قوة لتركيا، وعنصرًا من عناصر عمقها التاريخي والجغرافي.
ولهذا شدّد الرئيس أردوغان في خطابه على أن معركة ملاذكرد وفتح القدس وفتح إسطنبول والدفاع عن جناق قلعة وحرب الاستقلال، لم تكن يومًا حكرًا على الأتراك وحدهم، بل هي انتصارات مشتركة خاضها الأتراك والأكراد والعرب وسائر شعوب الأمة الإسلامية معًا، وأشار إلى أن القدس قد فُتحت على يد المسلمين من الأتراك والأكراد والعرب بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ثم أكد أن دمشق وديار بكر وماردين، والموصل وكركوك والسليمانية وأربيل وحلب، وهاطاي وإسطنبول وأنقرة ليست مدنًا متفرّقة بل "مدننا المشتركة" ثم أطلق أردوغان عباراته الحاسمة قائلًا:
"عندما تحالفنا نحن الأتراك، والأكراد، والعرب، هبت رياح خيولنا لتنشر نسائم باردة من بحر الصين إلى الأدرياتيكي. ولاتنسوا أن صهيل خيولنا جلب السلام إلى المنطقة. كما جلب صوت صدام السيوف السلام إلى هذه المنطقة... لقد نقشنا جميعًا شعار 'لا إله إلا الله محمد رسول الله' في الأرض، وفي السماء، وفي قلوب بعضنا البعض... عندما تحالفنا، لم يستطع أحد أن ينافس حضارتنا وفننا وعلمنا ومستوى رفاهيتنا. إذا كان الأتراك والأكراد والعرب معاً ومتحدين، فعندئذ يكون هناك تركي وكردي وعربي. وعندما يتفرقون، وينقسمون، ويتباعدون، فحينها تكون الهزيمة، والدمار، والحزن. لقد دمرت جيوش المغول بلاد الإسلام بوحشية، لأن الأتراك والأكراد والعرب كانوا متفرقين. وهاجم الصليبيون بلاد الإسلام لأن الأتراك والأكراد والعرب كانوا منفصلين عن بعضهم البعض. لقد خسرنا الحرب العالمية الأولى، ورُسمت حدود بيننا، وشُيدت الجدران. فقدنا القدس بسبب الفرقة. كلما تفرقنا خسرنا وهُزمنا. وعندما تحالفنا، رسمنا مسار التاريخ.
واليوم، تُرتكب في غزة أبشع وأفظع إبادة جماعية في التاريخ. لماذا؟ لأن الأتراك والأكراد والعرب لا يستطيعون التوحد وتشكيل تحالف كما فعلوا على مر التاريخ."
لقد اقتبست جزءا مطولا، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليس فقط الأتراك والأكراد في تركيا، بل جميع الشعوب في المنطقة، وخاصة الدول العربية. إن استنباط الرئيس أردوغان لدروسٍ تتعلق بالمسؤولية من مأساة غزة، في ضوء التفرقة بين الأتراك والأكراد، يحمل أهمية بالغة. بالطبع، على أحفاد صلاح الدين الأيوبي أن يستخلصوا دروسهم من هذه الكلمات، تمامًا كما يجب على العالم الإسلامي بأسره أن يتعلّم منها.
ورغم أن هذا هو أحد أبرز الرسائل في خطاب أردوغان، إلا أن له أبعادًا أخرى لا تقل أهمية. فقد تناول فيه الحديث عن "القطاع" أو "النظام البيئي" الذي أُنتج طيلة 47 عامًا من الإرهاب، لا سيّما بمشاركة من يدّعون مناهضة الإرهاب، لكنهم في الواقع جزء من هذه المنظومة. وهذه نقطة في غاية الأهمية، إذ تُفسِّر السبب الجوهري لاستمرار الإرهاب حتى الآن. هذا الحديث هو شهادة مَن عايش هذه المنظومة بكل تفاصيلها وحِيَلها طوال 23 عامًا، وعانى من تبعاتها بشكل مباشر، لكنه في الوقت نفسه يمثّل تحذيرًا واضحًا. فمع انحسار مخططاتهم ومكاسبهم السياسية، لا شك أنهم سيبذلون كل ما في وسعهم اليوم كما فعلوا سابقًا، من أجل إفشال المسار الحالي، لكنهم هذه المرة يواجهون ثقة راسخة قائمة على أسباب حقيقية وواقعية.
وبقدر ما يحمل هذا المسار من أهمية سياسية ووطنية، فإن خطاب الرئيس أردوغان يُعدّ وثيقة مرجعية أساسية لا بد من قراءتها باستمرار بعناية فائقة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة