من الواضح أن تعرض قطر التي تحتضن على أراضيها واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأميركية، لهجوم إسرائيلي، تحت الحماية الأمريكية، سيجعل المنطقة بأسرها تعيد تقييم تصوراتها الأمنية من جديد. فوجود القواعد الأمريكية في قطر يتضمن بروتوكول تعاون أمني مع واشنطن، ما يعني أن أي هجوم يستهدف قطر يُعدّ هجومًا مباشرًا على الولايات المتحدة، ويُلزِمها بالدفاع عن قطر بموجب هذا البروتوكول.
ولكن في هذا الهجوم الثاني الذي تعرضت له قطر، لم تقدم القواعد الأمريكية أي فائدة، بل بات واضحا الآن أنها هي نفسها مصدر التهديد. ففي الهجمات السابقة التي شنتها دول الخليج على قطر، لم تُظهر الولايات المتحدة أي تضامن، على عكس تركيا التي وقفت بجانب قطر رغم عدم وجود اتفاقية تعاون واسعة النطاق. فقد التزمت تركيا بوعدها، وأدت ما يفرضه عليها ميثاق التحالف بكل جدّية وإخلاص.
أما في هذا الهجوم، فلم تكتفِ الولايات المتحدة بمشاهدة الهجوم الإسرائيلي، بل قدمت لإسرائيل كل الدعم اللازم من أسلحة ودعم لوجستي واستخباراتي. وما تلا ذلك من تعهدات أمريكية بعدم تكرار الأمر لم يكن سوى خطاب يتسم بالازدواجية ويفتقر إلى أي مضمون حقيقي، أقرب إلى السخرية منه إلى الضمانات. فما حدث قد حدث. لقد تعرضت قطر لخيانة من الولايات المتحدة، التي عهدت إليها بأمنها، واتضح أن هذا ما سيحدث دائمًا عندما تكون إسرائيل طرفًا في المعادلة.
لقد باتت ملامح المخطط التوسعي الاستراتيجي الإسرائيلي واضحة وضوح الشمس، ولم يعد أحد يسعى إلى إخفائها. فالتصريحات الصادرة عن أعلى المستويات الرسمية في تل أبيب تكشف عن نوايا عدائية تطال مجمل دول المنطقة، بما فيها تلك التي انتهجت سياسات “تطبيع”. ولا تقتصر هذه الخطة على مصر والأردن والسعودية، التي سعت إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع تل أبيب، بل تمتد لتشمل العراق والكويت وسوريا أيضًا. وحتى الدول التي حاولت، تحت مظلّة “صفقة القرن” التي روّج لها ترامب، أن توهم نفسها بأنها في مأمن من هذا المشروع التوسعي، لم تعد اليوم تشعر بالأمان، ولا ينبغي لها أن تشعر به.
إن تعرّض قطر، المعروفة بسياستها الحكيمة في المنطقة وإسهاماتها المميزة في الوساطة والحوار والسلام، لاعتداء إسرائيلي، يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا أحد بمنأى عن التهديد الإسرائيلي، ومن هذه اللحظة أصبح لزامًا على جميع الدول أن تتوحد في إطار مفهوم جديد للتضامن المشترك والتعاون الدفاعي ضد التهديد الإسرائيلي، إذ باتت المسألة قضية أمن عاجلة. فإسرائيل ليست سوى كيان إرهابي عدواني بالغ الخطورة، يتحرك بدوافع دينية وأيديولوجية متطرفة، لا علاقة له بالعقل أو الدبلوماسية أو منطق العلاقات الدولية وقوانينها. وفي سبيل تحقيق مُثُله الدينية، يمكنه ارتكاب أبشع صور الوحشية، وارتكاب كل صنوف الجرائم ضد الإنسانية، إذ تُعتبر هذه الانتهاكات والفظائع في عقيدته مقبولة بل ومشجَّع عليها دينيًا. وهذه الحالة من الجنون الخالية من العقل والميزان والرشد، والذي لم يكن من المألوف أن تُنسب إلى إسرائيل، التي كان يُروَّج لها كأنها "الدولة الديمقراطية والعلمية والعلمانية الوحيدة في الشرق الأوسط"، أصبحت اليوم حقيقة يواجهها الجميع بذهول.
وإذا كان العنف غير المسبوق الذي ارتُكب في غزة خلال العامين الماضيين لم يُظهر بجلاء حقيقة هذا الخطر، فإن الهجوم على قطر قد كشفه بما لا يدع مجالًا للالتباس. وفي بعض الشرور غير المرغوب فيها قد يكون هناك خير؛ إذ ربما يشكّل الاعتداء على قطر رياحًا جديدة تدفع الدول العربية إلى التقارب والتضامن فيما بينها.
وقد ألقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خطابا أمام مجلس الشورى السعودي قال فيه: "نرفض ونُدين اعتداءات إسرائيل المحتلّة في المنطقة، وآخرها العدوان الهمجي على دولة قطر. هذا الهجوم يستدعي تحرّكاً عاجلاً على المستوى العربي والإسلامي والدولي." ثم وجّه رسالة تضامن قوية قائلا: "لا بدّ من اتخاذ إجراءات دولية لوقف سلطة الاحتلال وردعها عن ممارساتها الإجرامية التي تهدد أمن المنطقة واستقرارها. ونحن سنقف إلى جانب دولة قطر في كل قرار تتخذه، وسنُسخّر جميع مواردنا لتحقيق ذلك".
في الواقع، لم يتبق أمام الدول الإسلامية في هذه المرحلة سوى تجديد روح التضامن بين الدول الإسلامية ضد إسرائيل. فسياسات إسرائيل الصهيونية باتت تشكل تهديداً مباشراً للجميع. لقد أوضحت القنابل التي سقطت في الدوحة أن كل قنبلة تسقط على غزة تسقط أيضًا على القاهرة والرياض ومكة والمدينة وأبو ظبي. ومنذ البداية، تؤكد تركيا أن القنابل المتساقطة على غزة إنما تتساقط في الوقت نفسه على إسطنبول وأنقرة وسائر المدن التركية، وتشعر بها على هذا النحو.
وليست تركيا وحدها من تقول ذلك. فقد بدأت الأوهام الصهيونية تُترجَم إلى تصريحات وقحة وحمقاء، مفادها أنّ الهجوم على قطر قد يتبعه هجوم على تركيا. إذ لم يتورع الناطقون باسم الكيان الصهيوني عن التصريح علنًا بأن من قصف الدوحة قادر على قصف أنقرة. بل إن نتنياهو نفسه صرح بوقاحة ووحشية: «كل من يدعم أو يحتضن حماس سيلقى نفس مصير الدوحة». والجميع يعلم أن المقصود بذلك هو تركيا.
لقد أطلق الصهيوني الأمريكي الشهير مايكل روبين العنان لأوهامه وهذيانه في مقال نشره في "مجلة الأمن القومي" بعنوان: "من التالي بعد قطر؟ الناتو لن يحمي تركيا من هجوم إسرائيلي". إن قدرة دولة الإرهاب الإسرائيلية، المدانة عالميًا بتهم جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، على اتهام الآخرين بالإرهاب أو دعم الإرهاب دليل على غطرسة الصهيونية وغرورها. لكنها تعجز عن إدراك أن العالم بدأ يتجاوز الهيمنة الصهيونية بسرعة. واليوم لا يحق لإسرائيل ولا لمؤيديها الحمقى اتهام حماس أو أي شخص آخر بالإرهاب. إن ما تبقى لإسرائيل فعله الآن، هو الهروب إلى أقصى مدى من الإنسانية والعدالة، ومنطق العقل، والضمير. ولكن الحقيقة أنها مهما حاولت الهروب، فلن تفلت من المساءلة، وليس لديها ما تقوله أمام العقل أو القانون أو المنطق أو الضمير. والسؤال المطروح: هل ما يمنع إسرائيل من مهاجمة تركيا هو عضوية تركيا في الناتو أم تركيا نفسها؟ فلتجرب إذا استطاعت.
ولأول مرة، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بمشاركة الولايات المتحدة، بيانًا يدين الهجوم الإسرائيلي على قطر. وقد يقال إن هذا لا أهمية له من الناحية العملية، لكن هذا غير صحيح. فكما كتبنا مؤخرًا، حتى في الرأي العام الأمريكي، أصبحت إسرائيل مصدر إزعاج كبير بسبب غطرستها المفرطة وعدوانها ، وإجرامها على حساب الولايات المتحدة، أي أن الولايات المتحدة نفسها لم تعد قادرة على احتمالها.
وبالتالي، فإن أي كتابات مستقبلية لأشخاص مثل مايكل روبين، معتمدين على الولايات المتحدة للدفاع عن إسرائيل، لن تزيد إلا من ترسيخ كراهية الرأي العام الأمريكي لإسرائيل أكثر فأكثر.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة