شنت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، هجومًا على قطر، مما أحدث صدمة كبيرة في العالم العربي. رغم أن بعض الدول فتحت أجواءها لإسرائيل بدافع الخشية من الولايات المتحدة، فإن هذا الهجوم أعلن فعليًا أن العام الذي اكتمل فيه الربع الأول من القرن الحادي والعشرين سيدفع العالم العربي إلى عزلة خطيرة.
الصدمة الحالية ليست عابرة أو مؤقتة؛ فهي هدمت العقائد الأمنية التي اعتمدت عليها الدول العربية منذ قيامها، وهي العقائد التي ظنّ أصحابها أنها تضمن أمنهم وتحميهم.
الضمانات التي تمنحها الولايات المتحدة لكم لها حدود يحددها طموح إسرائيل. الغطاء الذي كانت توفره «حماية أمريكا وبريطانيا» عن الأنظمة العربية انكشف. تبين أن ضمانات الأمن التي تمنحها هاتان الدولتان لا تتجاوز حدود مصالح وطموحات إسرائيل، وأنها تُمنح فقط طالما لم تتعارض مع أولوياتها.
اتضح كذلك أن هذه الضمانات كانت موجهة فقط لحماية الأنظمة من خصوم محددين (إيران، روسيا، أو قوى لا تريدها الدول الغربية)، وأنها دعمت ضبط التوازن داخل المنطقة، لكنها لم تقدّم أي ضمان حقيقي حيال طموحات الغرب وإسرائيل الإقليمية.
مع انهيار عقيدة الأمن، انهارت أيضًا ضمانات استمراركم في السلطة — وحتى «الطاعة المطلقة» لم تعد كافية. لم تنهَر فقط العقيدة الأمنية للأنظمة العربية؛ بل انهارت معها أيضًا ضمانات بقائها في السلطة. وقد تكون هذه الصدمة أخطر من السابقة، ولن تكفي معها «الطاعة المطلقة» لإصلاح الوضع.
على الشعوب العربية أن تدرك أن استقلالياتهم وحدودهم وسيادتهم وبُنى سلطتهم كانت، في الواقع، مبنية على إبقاء النفوذ الغربي الإقليمي محفوظًا وعلى الخضوع لإسرائيل.
إذا استمرّ الحال على هذا المنوال، فإن الأمة العربية ستخسر القرن الحادي والعشرين. بوادر هذه الخسارة ظهرت منذ اجتياح العراق، ومنذ ذلك الحين تصاعدت الحروب في أرضنا وخسرت الدول العربية باستمرار، وتقلّصت حدودها — وهذا ليس محض مصادفة.
الاستثناء الوحيد حتى الآن هو سوريا، وفضل ذلك يعود لتركيا. التغيير في سوريا كان استثناءً، ولم يكن ممكنًا لولا صبر تركيا وإصرارها. لولا تركيا لكانت سوريا ضائعة من قبل.
الأنظمة العربية اتبعت، في مواجهة الاختبارات الكبرى، سياسة خطيرة: قدّمت الدول حفاظًا على بقاء الأنظمة. اختارت حفظ السلطة بدلًا من حماية الوطن. وكان بالإمكان الجمع بين الحماية الوطنية وبقاء المؤسسات؛ وكان بالإمكان أيضًا الاستفادة من التحولات العالمية لصياغة خيارات ذكية. لكن الأنظمة استسلمت لراحة «حماية أمريكا وبريطانيا» رغم أن هذه الحماية اتضح أنها سراب. وبذلك ضحّوا بمصائر بلدانهم ومجتمعاتهم دون تردد.
حوّلوكم إلى مواجهة مع شعوبكم عبر تضخيم تهديدات داخلية صغيرة لتبدو كأنها قضايا وجودية. أعماهم هذا النهج وأمسك بكم كرهائن، فاختيرت شعوبكم ضحاياً — وغزة كانت الاختبار الأكبر. لقد دفع الغرب هؤلاء إلى تحويل مشكلات بسيطة إلى تهديدات مصيرية، فانزلقت الأنظمة في صراع مع مجتمعاتها؛ وهذا كان نوعًا من الإرهاب الفكري.
غزة كانت الاختبار الأكبر: أُرتكب فيها ما يشبه الإبادة ضد الفلسطينيين الأبرياء. الهمجية الممارسة هناك تجاوزت كل ما شهده العالم من جرائم سابقة؛ قُتل الأطفال والرضع بشكل منهجي، وجُعل من الناجين ضحايا للمجاعة. الإنسانية بأسرها تشهد هذه الفظائع وهي تحبس أنفاسها.
بينما اتخذت دول غربية مثل إسبانيا وإيرلندا مواقف إنسانية واضحة، لم تفعل الدول العربية الشيء نفسه. لم تشارك الكتلة العربية في الحملات العالمية للتضامن — وهذا أمر مفاجئ وصادم.
الأنظمة العربية قدّمت غزة كقربان لإسرائيل، ورهنتها كـ«رشوة» لضمان أمنها. منحتها، بشكل ضمني، حق التصرف بلا رادع، في إطار تفاهمات خفية قُدّمت بوصفها ضمانات أمنية. وهكذا أصبحت بعض تلك الأنظمة شريكًا غير معلن في ما جرى من إبادة.
الفكرة كانت: «نُسلم غزة فتبقى شراكتنا مع الولايات المتحدة وبريطانيا» — لكن ما أُطلق عليه «شراكة» كان في الواقع تحويلًا للدول إلى رهائن. لم يكن في حساب الولايات المتحدة وإسرائيل «حلفاء» بالمعنى الحقيقي، بل دولًا مُذلّة.
المسألة أكبر من غزة: العالم فهم ذلك وهذا ما لم تفهمه تلك الأنظمة. بعد عقود من الرشاوى والتنازلات عن الأراضي، كانت غزة مجرد أحدث مثال. العالم أدرك أن القضية أعمق من ذلك، أما هؤلاء فلم يستفقوا. بالنسبة لإسرائيل كانت الجغرافيا مباحة، وهم استمرّوا في الإيمان بأوهام قديمة.
لا تبرروا ما حدث في قطر بتبريرات واهية. لا تخلطوا بين الصدمة ومحور الإرهاب. لا يجوز التقليل من خطورة الهجوم على قطر بدعوى «استهداف حماس» أو إلصاق المسألة بمحور الإرهاب. لا تبحثوا عن أعذار لإظهار أنفسكم بريئين.
من ضرب دمشق أكان يفعل ذلك بسبب «حماس»؟ أم حين جرى تسليح تنظيمات أخرى مثل تنظيم واي بي جي الإرهابي ضد سوريل وتركيا. هل كانت «حماس» في الحسبة؟ قد يصل الأمر غدًا إلى استهداف مكة والمدينة — فماذا ستكون تبريراتكم حينها؟ من نفّذ ما حدث في قطر قد يتجاوز ذلك إلى أماكن مقدسة؛ ومن ثم ستُستحدث ذرائع متعددة ومختلفة، وهم يعلمون مدى استعداد بعض الأنظمة لقبول هذه المقدمات.
حماس هي حركة مقاومة وطنية، نشأت لأن الأنظمة العربية لم تحمِ فلسطين. مجموعة صغيرة تُقاوم بشجاعة أمام عجز حكومات كثيرة. أفراد حماس يموتون ويُقتلون ويُهجّرون وتُدمّر عائلاتهم، ومع ذلك لا يتراجعون. في غزة عبرةٌ عظيمة لكل الدول العربية.
يا دول العالم العربي المطلوب: إنشاء محور عسكري مع تركيا وخريطة قوة جديدة: كونوا محورًا عسكريًا مع تركيا، وارسموا خريطة قوى إقليمية. هل يمكن لقمة الدوحة أن تفتح بابًا لخيارات جديدة؟ الأمل محدود، لكن هذه الدول قد تواجه الآن خيارًا مصيريًا للمرة الأولى منذ نشأتها.
العالم يعاد تشكيله، وخريطة القوى تُعاد رسمها، والغرب يفقد تأثيره، وتظهر قوى جديدة. أمامكم فرص للتوازن: حدوا من التبعية للغرب، ابنوا تضامنًا إقليميًا، قوّوا علاقاتكم مع آسيا، وافتحوا شراكات حقيقية مع تركيا. من الخليج إلى البحر الأسود، ومن البحر الأحمر إلى شمال وشرق أفريقيا، يجب وضع أساس لخريطة قوة إقليمية.
في عالمٍ طردت فيه دول أفريقية مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر النفوذ الفرنسي، أمام العرب أيضًا خيارات أخرى. الموارد والقدرات موجودة لبناء بدائل حقيقية.
جبهة داخلية وجبهة خارجية — تحركوا قبل فوات الأوان
إن لم يتحركوا فسيفقدون القرن. الاعتماد على الغرب ينتهي عندما تُهاجم إسرائيل مصالحهم — عندها لن يكون لأي حليف غربي موقف يدعمهم. هل لم يدركوا أنهم يستعملونكم ويذلونكم؟
على مصر والجزائر والسعودية ودول الخليج، بما فيها قطر، تأسيس جبهة داخلية موحدة. وعلى مصر والجزائر وتركيا وباكستان وإندونيسيا والسعودية تأسيس جبهة خارجية مشتركة.
لم يعد الزمن للعمل على مستوى دولة واحدة؛ حان وقت شراكات على مستوى مناطق. لا يمكن لأي دولة وحدها مواجهة العاصفة العالمية المقبلة. التضامن الأوروبي ضد التهديد الروسي مثال يُحتذى.
التضامن العربي الجغرافي والعسكري ضرورة لمواجهة العدوان الإسرائيلي؛ فالعدوان اليوم على غزة قد يتحول غدًا إلى عدوان على دول أخرى — سجلوا ذلك.
تركيا ومصر وسوريا وقطر
تركيا ومصر وسوريا وقطر: شراكات عملية ومبادرات دفاعية ممكنة. تركيا قادرة على أن تقدم خيارًا عمليًا للعالم العربي: نماذج اقتصادية وسياسية ودفاعية عابرة للدول. يمكن إرساء شراكات عسكرية خاصة وتشكيل وحدات مشتركة. تركيا دولة المنطقة الأقدر على قيادة هذه المبادرات من حيث القدرة والخبرة.
يمكن في البداية بناء محور ضيق بين تركيا ومصر وسوريا وقطر، يدعمه تزويد بالتقنيات العسكرية والعتاد وتشكيل وحدات خاصة، ثم تنضم إليه دول أخرى لاحقًا.
يومًا ما قد تُستهدف عواصمكم — انهضوا الآن! العدوان الإسرائيلي لن يقف عند غزة أو عند خط سوريا-لبنان؛ بل قد يتصاعد من البحر الأحمر إلى الخليج. قد تُستهدف العواصم والبيوت بذريعة مختلفة لكل هجوم، وأنتم تروّجون تلك الأذرع أمام شعوبكم — لكن هذا الطريق انتهى. لم يعد يمنح أنظمة العرب ضمانات للحكم أو للدفاع.
أيها الدول العربية: ضحّيتم بغزة كرشوة. سكتّم عن الإبادة. لم تتصرفوا حتى من منطلق إنساني. والآن بدأت القنابل تُسقط في عواصمكم. فلا تلزموا الصمت بعد الآن.
انهضوا، واعملوا على استعادة وعيكم والتحرّر من هذا الاستعباد الفكري؛ وإلا فمصيركم قد يصبح شبيهًا بمصير غزة، وهذا ما يريده اليمين المتطرف في إسرائيل والولايات المتحدة.
خلال العقد المقبل تخلّوا عن كل الخيارات ما عدا القوة. لم يعد هناك توازن ولا سياسات قديمة ناجعة، ولا وصاية غربية على الجغرافيا. استمراركم على هذا النحو هو طريق نحو الانتحار. الخيار المتاح الآن هو القوة: خلال السنوات العشر المقبلة ضعوا جانبًا كل الخيارات ما عدا القوة، فالردع الفعّال لا يكون إلا بالقوة.
اعترفوا الآن بخطورة التهديد الإسرائيلي. مقترحات قطر ومصر تلقى الاهتمام وتُبشّر بخيارات؛ هل سيليها تنفيذ؟ هل تُتخذ خطوات تمنع تكرار مآسي غزة؟ سنتابع.
لكن أوقفوا طريق الموت هذا الآن، وإلا فستنقرض المنطقة بأسرها. أنتم تدفعون دولًا وشعوبًا نحو الهلاك وتتركون المجتمعات تواجه غضبها بمفردها
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة