
بدأت مرحلة “استثنائية” بين تركيا وليبيا. فـ“الشراكة” التي استمرت مع حكومة طرابلس تدخل اليوم مرحلة جديدة مع قيادة خليفة حفتر. زيارات متبادلة تُجرى، وشراكات اقتصادية تُبنى، وخطط مستقبلية تُرسم، فيما تفتح تركيا مشهداً جديداً في لعبة النفوذ داخل البحر المتوسط وإفريقيا. لكن ما أسباب هذا التحوّل السياسي؟ ولماذا تتجه تركيا، التي أقامت “شراكة” مع حكومة طرابلس، نحو شرق ليبيا؟ وما الذي دفع خليفة حفتر إلى الالتفات نحو أنقرة؟ وكيف فُتحت الأبواب بهذه السرعة؟ وهل يقود هذا التقارب إلى تحقيق وحدة ليبيا؟ وما الذي يتغير في الامتداد الجغرافي من السودان إلى ليبيا؟
في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن تدخل تركيا في السودان الذي يشهد فظائع ترقى إلى مستوى الإبادة، تتحرك إثيوبيا نحو ميناء أرض الصومال، وتعمل مصر على تعزيز وجودها في ميناء إريتريا. تشهد منطقة أفريقيا الوسطى والشمالية سباق نفوذ محتدماً على نحو غير مسبوق.
ففي مثل هذه الساحات، تتجاوز تداعيات كل خطوة وكل تحرّك حدود الدول لتُحدث ارتدادات في دول إفريقية واسعة. ولهذا تُراقَب كل خطوة تركية بدقة، باعتبار أن تركيا واحدة من أهم الفاعلين في المنطقة.
وقد ترسّخت مبادئ التقارب الذي بنته تركيا مع دول المنطقة على أساس “الشراكات” في مواجهة السياسات الاستعمارية القديمة. وإلى جانب ذلك، أثبتت تركيا امتلاكها قدرة مناورة عالية وسريعة تتكيف مع الظروف المتغيّرة.
وقد طردت دول إفريقيا الوسطى، وعلى رأسها فرنسا، معظم القوى الغربية من أراضيها. هذا “التحوّل الثوري” أسّس لموجة ستغيّر مسار التاريخ الإفريقي. وفي قلب تلك الموجة وقفت تركيا إلى جانب هذه الدول كقوة داعمة مركزية، وفتحت أمامها قدراتها العسكرية والتكنولوجية، ولا تزال تفعل.
إفريقيا الوسطى لا يمكن تصورها من دون ليبيا. وأحد أسباب إسقاط القذافي كان نفوذه الكبير على دول وسط إفريقيا، وهو ما دفع فرنسا وساركوزي إلى إطلاق تلك الهجمات التي هزّت العالم.
ليبيا دولة متوسطية ضخمة، تزيد مساحتها على ضعف مساحة تركيا، وتملك واحداً من أكبر احتياطات النفط والغاز في العالم، إلى جانب ثروات مائية ومعدنية هائلة. وهي قادرة على إمداد جزء كبير من إفريقيا باحتياجاتها.
إن إنقاذ ليبيا من حالة الانقسام وعدم الاستقرار والنهب الذي تتعرض له من القوى الغربية بات ضرورة ملحّة.
فهي ليست مجرد دولة متوسطية، بل هي أكبر بوابة تمتد إلى قلب إفريقيا الوسطى. واستقرار دول الساحل من السودان إلى مالي وتشاد يمرّ عبر استقرار ليبيا. ولهذا فإن بناء دولة قوية وجيش موحد، واستثمار ثروات البلاد في تنميتها، وزيادة عدد السكان، وإرساء إدارة مركزية قوية… كلها خطوات حتمية.
تقسيم ليبيا خطر قاتل
وتركيا أدركت التهديد وتحركت
بعد سنوات من الحرب المدمرة، ومع ثرواتها الهائلة التي تحولت إلى لعنة، تحتاج ليبيا اليوم إلى إعادة لملمة جروحها. والحقيقة أن تقسيم ليبيا أو السودان سيؤدي إلى انهيارات شاملة في كل دول إفريقيا الوسطى تقريباً. لذا فإن تركيا—كما تسعى للحفاظ على وحدة السودان—ترى ضرورة بذل الجهد نفسه لمنع تقسيم ليبيا.
تركيا هي الدولة الوحيدة التي تشكل عامل استقرار حقيقياً لهذه الدول، وهذا ما يرتكز عليه جوهر سياستها في المنطقة.
والقرب من غرب ليبيا فقط، أي من حكومة طرابلس، مقابل الإبقاء على مسافة مع شرق ليبيا، يمثّل خطراً على تركيا نفسها، خصوصاً مع تصاعد التطورات في إفريقيا الوسطى.
ويبدو أن هذا الخطر هو ما دفع أنقرة إلى تسريع خطوات التقارب مع إدارة حفتر، حيث ظهرت إشارات لافتة تمثلت في استقبال حار قادم من بنغازي، وزيادة الزيارات واللقاءات والاتفاقيات الاقتصادية.
تصل إلى تركيا وفود متتالية من شرق ليبيا، وتُبرم اتفاقيات ضخمة بين بنغازي وشركات تركية، ويجري الضغط على مجلس النواب الليبي لقبول اتفاقية “المناطق البحرية” التي وقعتها تركيا مع طرابلس.
في المقابل، تبدو حكومة طرابلس وكأنها “مرتهنة” للولايات المتحدة وأوروبا، مع غياب التوزيع العادل لموارد المصرف المركزي، وحرف جزء كبير من الأموال نحو الغرب. كما أن واشنطن والعواصم الأوروبية تدفعان باتجاه نظام فيدرالي بدلاً من دعم توحيد البلاد، وتُمارس ضغوطاً أشبه بالابتزاز السياسي. كل ذلك يجعل التحرك العاجل لحماية وحدة ليبيا أمراً ضرورياً للغاية.
هذا التحرك يجري بالفعل. فقد التقى رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن مع خليفة حفتر في 26 أغسطس. وفي الشهر نفسه قام فريق من القوات البحرية التركية وسفينة “قنالي أدا” بزيارة ميناء بنغازي، بمشاركة قيادات من القوات المسلحة التابعة لحفتر، ما يعكس تقارباً لا يقتصر على السياسة والاقتصاد بل يشمل الجانب العسكري أيضاً.
وعند التأمل في الصور التي جمعت إبراهيم قالن مع بلقاسم حفتر في بنغازي، ثم زيارة بلقاسم لأنقرة ولقائه وزير الخارجية هاكان فيدان وتوقيع الاتفاقيات، يتضح أن هناك تأسيساً لمرحلة جديدة وقوية بين تركيا وشرق ليبيا ذات أبعاد جيوسياسية وليست اقتصادية فحسب.
من بنغازي إلى عمق إفريقيا
طريق سريع يعيد ليبيا إلى الساحة الدولية
انسحاب تركيز العالم على غرب ليبيا جعل التطورات في شرق البلاد بعيدة عن الأنظار. وفيما يلي بعض الملاحظات: بعد سنوات من الصراع، بدأت ليبيا تعود بقوة إلى الساحة الإقليمية والدولية. فقد استقر إنتاج النفط، وبدأ تنفيذ مشاريع تنمية عملاقة.
وتجري جميع هذه الخطوات تحت إشراف بلقاسم حفتر. ففي عامين فقط تم بناء مئات المدارس، وعشرات المستشفيات والمراكز الصحية، ومئات الكيلومترات من الطرق، إضافة إلى آلاف الوحدات السكنية.
ويجري الآن إنشاء طريق سريع يربط بنغازي بعمق إفريقيا. وبفضل هذا المشروع، ستصل البضائع القادمة من تركيا إلى بنغازي ثم تُنقل إلى دول إفريقيا الوسطى خلال 3 إلى 4 أيام فقط.
وتكشف المعطيات أن العلاقة بين تركيا وإدارة حفتر تسير نحو شراكة بنّاءة ودائمة تُعيد بناء ليبيا، وتستند إلى رؤية توحيد البلاد تحت سلطة مركزية واحدة. فمستقبل الامتداد الجغرافي بين السودان وليبيا وإفريقيا الوسطى والمتوسط قد يتحدد وفق هذا التقارب.
تركيا كسرت كل المسلّمات
بناء جيش ليبي قوي ضرورة وجودية
حققت تركيا نفوذها خلال العشرين عاماً الماضية عبر قلب معادلات عمرها مئة عام. فهي دولة بلا عقد مسبقة، منفتحة فكرياً، وتتحرك وفق عقل جيوسياسي بعيد المدى.
لذلك يجب إنهاء الانقسام بين طرابلس وبنغازي، ومنع انهيار ليبيا، وبناء دولة قوية. كما ينبغي أن تكون تركيا أكبر داعم لليبيا سياسياً واقتصادياً ودولياً. فبناء جيش ليبي موحد لا يمكن تحقيقه إلا عبر الخبرة التركية الممتدة لقرون.
وبهذه الطريقة يمكن تحويل القوات المسلحة الليبية إلى جيش قوي قادر على حماية الدولة. أما بقاء الوضع الحالي فسيفضي إلى انهيار البلاد. ويجب أيضاً منع نهب الثروات الليبية من قبل الشركات الغربية ودعم سياسة “توطين” الموارد لصالح ليبيا وشعبها.
يسيطر حفتر على الجزء الأكبر من ليبيا، والموارد الأساسية موجودة في مناطق نفوذه. ومن هنا، يجب أن يتحول التقارب مع إدارته إلى مشروع لإعادة بناء البلاد وإرساء صورة “ليبيا القوية”.
تركيا جاهزة، وليبيا جاهزة، وهذا التحرك ضرورة لمستقبل إفريقيا الوسطى. لكن كي يتغير الرأي العام حول ليبيا، يجب تعزيز الإعلام وإدارة المعلومات. فالعالم يتحول بسرعة، ولا يستطيع اجتياز هذا الجسر إلا أصحاب العقول المنفتحة.
لذلك فإن دعوة خليفة حفتر إلى تركيا، وتحويل شراكة الشرق والغرب الليبيين إلى قوة مركزية واحدة، وإرساء شراكة بناءة وسليمة تقودها تركيا في كامل المنطقة، بات أمراً ملحاً. فقد حققت تركيا كل إنجازاتها من خلال كسر المسلّمات التي فرضها الغرب على عقولنا طوال قرن. والآن حان الوقت لكسر تلك المسلّمات في ليبيا أيضاً.
وبرأيي.. آن الأوان لدعوة حفتر إلى تركيا.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة